جيل الاستقلال.. البدايات والمآلات (5 من 10)
الدكتور عمر مصطفى شركيان
في الجانب الآخر من المحيط الأطلنطي، أي في الولايات المتحدة الأمريكيَّة، فإنَّ هناك ثمة تقليداً أو عُرفاً بأنَّ البيض البروتستانتيين المتحدِّرين من الأصول الأنجلو-ساكسونيَّة الذين تدرَّجوا في تعليمهم من المدرسة الداخلية إلى جامعة هارفارد، ونادي بروسيليان للصفوة (أسوة بنادي بولونغدون لصفوة أوكسفورد في إنجلترا) هم الذين يحكمون الولايات المتحدة الأمريكيَّة. تلك المدرسة الداخليَّة، أي مدرسة قروتون للبنين، هي المدرسة الشهيرة التي أسسها مديرها كوتي بيبودي على غرار مدرسة إيتون في إنجلترا، وكانت مؤسَّستها التعليميَّة هي كلية شيلتنغهام. لقد أضفى بيبودي نفوذاً مستعظماً على طلابه في العبادة، حتى أنَّه حين كان يأتي إلى البيت الأبيض لمقابلة الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، كان السامعون يقولون إنَّهم سمعوا الرئيس يقول: “أتدرون، إنَّني ما زلت أرتعب منه!” لعلَّ مدرسة قروتون – علاوة على مدارس الصفوة الأخرى – كانت الأرضيَّة التي أنتجت الطبقة الأرستقراطيَّة في إنجلترا الجديدة. كانت هذه الطبقة متعادلة سويَّاً، ويلعبون البولو معاً، ويتزاوجون فيما بينهم، ثم يتفاخرون بأنَّهم يتحدَّرون من أصول مستوطني مايفلور الأصلاء. في خلاصة القول نستطيع أن نقول إنَّ الصراع اليوم في أمريكا ليدور بين أولئك الذين يصرُّون في أن تظل السلطة مقصورة على أشخاص مثلهم (الجمهوريُّون)، وبين الذين يكافحون في أن تكون السلطة مشاركة ومشاعة على طول وعرض الديمقراطيَّة التعدُّديَّة.
لعلَّ من الجدير أن نذكر أنَّ فكرة الأندية الثقافيَّة-الاجتماعيَّة كانت قد نشأت منذ عهدٍ سحيق موغل في القدم في العالم الغربي، واستغلها مرتادوها من الرجال للتحاور حول القضايا الإنجليزيَّة الملحَّة، والخداع الإمبريالي، والعصبيَّة الذكوريَّة لقرون عدداً. وفي بعض الأحايين كان يتمُّ استخدامها لتبادل الحكوات القديمة عن أساليبهم المتشدِّدة في التقيُّد باللوائح الاجتماعيَّة. لقد سرد الباحث سيث أليكسندر ثيفوز في كتابه المعنون “حكومة النادي: كيف حكمت أنديَّة لندن العالم الفيكتوري الأوَّل” الصادر العام 2018م (Club Government: How the Early Victorian World Was Ruled from London Clubs)، وكذلك كتابه “ما وراء الأبواب المغلقة” المنشور العام 2022م (Behind Closed Doors: The Secret Life of London Private Members’ Clubs)، ما كان يجرى في داخل هذه النوادي. بيد أنَّ أول نادي أُنشأ لم يكن في لندن، بل في أمريكا، وهو نادي بحر الجنوب في ولاية ميريلاند، الذي تأسَّس العام 1690م، وكان عدد أعضائها يبلغ 30 عضواً من الإنجليز المستعمِرين (بكسر الميم)، وذلك في كوخ كبير. أما أوَّل نادي في لندن فقد أُنشأ في منطقة سانت جيمسيس العام 1693م بواسطة مهاجر إيطالي يُدعى فرانسيسكو بيانكو (أوبيانشي)، الذي أقدم لاحقاً على “أنجلكنة” اسمه، ثمَّ هو الذي فتح مقهى القهوة البيضاء. وفي العام 1832م تمَّ افتتاح نادي كارلتون في لندن كذلك بواسطة أنداد وأعضاء البرلمان من حزب المحافظون بعد هزيمتهم في قانون الإصلاح. ومن ثمَّ شهدت الإمبراطوريَّة البريطانيَّة أمواجاً من النوادي، حتى يتسنَّى للبريطانيين العاملين بالخارج محاكاة مثيلاتها الأمريكيَّة والبريطانيَّة في الأراضي الأجنبيَّة. هذا ما كان من أمر الصفوة في كل من المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكيَّة. فماذا كان من أمرها في السُّودان؟
إذا تأمَّلنا في أمر أولئك الذين شكَّلوا الحياة السياسيةَّ والثقافيَّة والأدبيَّة في السُّودان في أعقاب جلاء المستعمر فلتجدنَّهم قد تخرَّجوا في ثلاث مدارس شهيرة أنشأها نظام الحكم الثنائي (1898-1956م)، وذلك لترفد كليَّة غوردون التذكاريَّة، التي أصبحت كليَّة الخرطوم الجامعيَّة قبل أن تصبح جامعة الخرطوم فيما بعد، بالطلاب النجباء. فقد كانت مدرسة أم درمان هي المدرسة الثانوية الوحيدة في السُّودان آنذاك، وقد تمَّ تقسيمها العام 1946م إلى مدرستي وادي سيدنا وحنتوب الثانويَّتين، ثمَّ أٌضيفت إليهما مدرسة ثالثة هي مدرسة خورطقت بكردفان العام 1949م. كانت أولى هذه المدارس هي مدرسة وادي سيدنا شمال مدينة أم درمان، حيث “بدأ بناء المدرسة العام 1938م، وكان من المفترض أن تكون المباني قد اكتملت لتبدأ الدراسة فيها العام 1940م، إلا أنَّ اندلاع الحرب العالميَّة الثانية (العام 1939م) حال دون ذلك لحاجة الحكومة البريطانيَّة إلى ما كان قد اكتمل بناؤه من مباني المدرسة لأغراض الحرب.” إذ بدأت الدراسة فيها في كانون الثاني (يناير) 1946م. ومن خريجي مدرسة وادي سيِّدنا قبل أن تتحوَّل إلى ثكنات للكليَّة الحربيَّة الروائي الطِّيب صالح والقاص الشهير علي المك والدكتور الحبر يوسف نور الدايم والدكتور منصور خالد والنائب الأوَّل للرئيس السابق عمر حسن أحمد البشير الفريق أوَّل الزبير محمد صالح.
أما مدرسة حنتوب الثانوية التي تمَّ تشييدها شرق مدينة ود مدني، فقد تمَّ افتتاحها في أيلول (سبتمبر) 1946م، واتَّخذت طائر الهدهد شعاراً لها، وأصبح الإنجليزي لويس براون أوَّل ناظر (مدير) لها، وكان يساعده المستر كرايتون والأستاذ أحمد محمد صالح. ومن خريجي هذه المدرسة الرئيس السُّوداني الأسبق جعفر محمد نميري، وسكرتير الحزب الشيوعي السوداني السابق محمد إبراهيم نقد، والدكتور حسن عبد الله الترابي الذي كان أوَّل السُّودان في امتحان الشهادة الوسطى، ثمَّ تقدَّم وهو في نهاية السنة الثالثة للامتحان لشهادة كمبردج وحصل على الدرجة الأولى التي أهلته لدخول كلية القانون، والتي كان القبول فيها يتم سنة بعد سنة تجنباً لخريجين لا تحتاج إليهم البلاد، ورئيس وزراء الحكومة الانتقاليَّة (1985-1986م) الدكتور الجزولي دفع الله، وعميد الصحافة السُّودانيَّة محجوب محمد صالح، والشعراء والأدباء الهادي آدم، وصلاح أحمد إبراهيم، والنور عثمان أبكر، ومحمد عبد الحي، ووزير الثقافة والإعلام الأسبق العميد عمر الحاج موسى، وعبد الله زكريا إدريس، وهو كان الأوَّل في النقل من الفصل الأوَّل إلى الثاني. وكذلك من خريجي مدرسة حنتوب “عبد الله الطاهر بكر الذي التحق فيما بعد بالكلية الحربيَّة، والذي ما أن استقرَّت ثلاث دبورات على كتفه حتى دفعته روح القيادة (والمغامرة) إلى المشاركة في انقلاب البكباشي (الرَّائد) علي حامد، وكاد أن يُطاح رأسه لولا العناية الإلهيَّة التي منحته ثلاث سنوات سجناً عن كل دبورة.”
وفي أمر عبد الله زكريا يورد المرحوم إبراهيم منعم منصور في مذكراته أنَّ عبد لله زكريا ظلَّ يداوم معهم في الأنداية (الحانة) التي كانت بجوار مدرسة حنتوب لاحتساء المريسة (الخمر البلدي)، وذلك حينما كانوا يتسللون إليها لواذاً بعد أن يرن جرس النوم. وفي ليلة من لياليهم فاجأهم النديم الكبير عبد الله زكريا بأنَّه جاء ليودعهم كندماء، لأنَّه انضم لتنظيم الإخوان المسلمين، وعليه فسوف لا يتعاطى الخمر بعد اليوم، وتأسفوا لأنَّه لم يبلغهم مقدِّماً حتى يعدوا له حفلة وداع تليق بتاريخه معهم، وبخاصة أنَّه كان معهم منذ مدرسة الدويم الريفيَّة، كما تعجَّب بعضهم لوصفه المريسة بأنَّها خمر. ومن المعلوم أنَّ عبد الله زكريا وبابكر كرار وميرغني النصري وفتح الرحمن البشير وآخرين كانوا العمد الذي قامت عليه حركة الإخوان المسلمين في حنتوب، وكانت الحركة تختلف عن الجمعيَّة الدِّينيَّة التي كان يظهر بعض أعضائها في الموكب السنوي لعيد المدرسة بالزي السُّوداني وفي يد كل منهم مصحف. إبَّان تواجده في ليبيا أثناء الجبهة الوطنيَّة المعارضة لنظام الرئيس السُّوداني الأسبق جعفر محمد نميري أصبح عبد الله زكريا أحد منظري العقيد الليبي الراحل معمر القذافي، وكان ممن لهم اليد الطولي في تأليف الكتاب الأخضر، وتطبيقاته العمليَّة في اللجان الثوريَّة، وعاد إلى السُّودان بعد الانتفاضة الشعبيَّة في نيسان (أبريل) 1985م وأنشأ تنظيم اللجان الثوريَّة في السُّودان.
وبعدئذٍ تمَّ إنشاء مدرسة خورطقت الثانوية شرق مدينة الأبيض، واتَّخذت شجرة التبلدي شعاراً لها، وقد تمَّ افتتاح هذه المدرسة على يد وزير المعارف حينئذٍ عبد الرحمن علي طه في 28 كانون الثاني (يناير) 1951م، وكان أوَّل مدير لها هو النصري حمزة. أما من خريجي مدرسة خورطقت فهم رئيس المجلس العسكري الانتقالي (1985-1986م) المشير عبد الرحمن محمد الحسن سوار الدهب، ونائب الرئيس ووزير الدفاع الأسبق عبد الماجد حامد خليل، والديبلوماسي الشاعر محمد المكي إبراهيم، والشاعر الروائي فضيلي جماع والقانوني الأديب فرانسيس دينق مجوك، وزعيم حزب المؤتمر الشعبي الدكتور علي الحاج محمد، وعضو مجلس قيادة انقلاب الإنقاذ العميد إبراهيم نايل إيدام.
كذلك من خريجي مدرسة خورطقت العقيد (معاش) يعقوب إسماعيل يعقوب، الذي رغم تفوُّقه وحصوله على الدرجة الأولى في الشهادة الثانوية، إلا أنَّه فضَّل الكليَّة الحربيَّة على الدراسة الجامعيَّة في سبيل عشقه للعسكريَّة. ففي حفل التخريج بالخرطوم في كانون الثاني (يناير) 1962م قلَّده صاحب المعالي الفريق إبراهيم عبود سيفاً باعتباره أوَّل الدفعة 13، وكان عددهم 58 ضابطاً، وفاز كذلك بجائزة الثقافة، وجائزة الرماية، وكانت هذه أوَّل مرة في تاريخ الكليَّة الحربيَّة يحصل فيها طالب واحد هو يعقوب إسماعيل يعقوب على الجوائز الثلاث كأوَّل الدفعة وأحسن طالب في الثقافة والرماية.
للمقال بقيَّة،،،