جيل الاستقلال.. البدايات والمآلات (4 من 10)
الدكتور عمر مصطفى شركيان
جيل الاستقلال ونكبة الآباء المؤسِّسين
لقد دأبنا عند كتابتنا أو تناولنا قضايا الأزمة الوطنيَّة في السُّودان أن ننظر إلى الأمر في الإطار العام، أو العالمي، وذلك قبل التطرُّق إلى الإطار الداخلي في السُّودان. إذ يحدونا الأمل في إتباع هذا المنهاج حتى نقف على تجارب من سبقونا من الأمم في تلك القضيَّة أو غيرها. فالحضارات تسير وتعبر القارات، وكذلك التجارب الإنسانيَّة التي هي نتاج تلاقي وتلاقح الأمم والشعوب. اتساقاً على ذلك نقلت الدول المستعمِرة (بكسر الميم) في سبيل تدافعها إلى إفريقيا تجاربها المدنيَّة والسياسيَّة والعسكريَّة، والسُّودان لم يكن بمنأى عن ذلك. إذ مثَّلت هذه العوامل المستجلبة قطب الرَّحى في مسيرة تاريخ السُّودان الحديث، ولا ريب في أنَّها هيَّأت ظروفاً اجتماعيَّة وفكريَّة، وهذه الظروف بدورها أثَّرت في تهيئة الظروف الاقتصاديَّة والسياسيَّة، التي دفعت عجلة التاريخ أن تسير على ذلك النحو من السير. فالحياة المدنيَّة والثقافيَّة التي ظهرت في السُّودان إبَّان الاستعمار البريطاني-المصري (1898-1956م) ما هي إلا ما سمحت بها السلطات الاستعماريَّة آنئذٍ من هامش الحريَّة، واتَّسعت هذه الفجوة الثقافيَّة، وأمست سياسيَّة-حزبيَّة في نهاية الأمر. إذاً، ماذا جرى في السُّودان من فرص التعليم والتثقيف، وكان ذلك الأمر يمثل باكورة الحياة السياسيَّة في السُّودان؟
في بريطانيا احتكرت، وما تزال تحتكر، الصفوة من خريجي مدرسة إيتون وجامعة أوكسفورد السلطة السياسيَّة في بريطانيا. لقد درس هؤلاء الخريجون في الجامعة إيَّاها السياسة والفلسفة والاقتصاد، وأرفدت المؤسَّسات البريطانيَّة عبر السنوات بأعداد من الوجهاء، وبخاصة في مجالي السياسة والصحافة. هؤلاء الخريجون الذين تقلَّدوا مناصب في السياسة والخدمة المدنيَّة في بريطانيا مثلهم كمثل ما يفعل خريجو المدرسة الوطنيَّة للإدارة في فرنسا، وهم الأقليَّة التي يتمُّ تعيين أغلبهم في مؤسَّسات الجمهوريَّة الحسَّاسة والعليا؛ وهناك ثمة انتقادات واسعة ضد هؤلاء الخريجين؛ إذ أنَّ بعض المنتقدين يشير إليهم بأنَّهم لا يفقهون من الأمور شيئاً، غير الاستفادة من ميزة التخرُّج من هذه المدرسة المرموقة. هكذا نجد أنَّ أغلب رؤساء الوزراء والوزراء الذين حكموا المملكة المتحدة من خريجي مدرسة إيتون العريقة. لعلَّهم كانوا من أسر أرستقراطيَّة، ومن غير المهم الدرجة الأكاديميَّة التي تسمح لهم بدخول الجامعة، بل حسبهم ونسبهم يكفيان ذلك. ففي العشرينيَّات من القرن الماضي قبلت جامعة أوكسفورد أليكسندر دوقلاس-هيوم كحقه بالميلاد، وتخرَّج بالدرجة الثالثة، ومع ذلك اتَّخذ سبيله في الحياة السياسيَّة سرباً ليصبح رئيساً لمجلس الوزراء، ويكون الخريج الثالث على التوالي في مدرسة إيتون يتقلَّد هذا المنصب الرفيع.
أما وزير الخارجيَّة الأسبق أنثوني إيدين، ورئيس مجلس الوزراء الأسبق هارولد ماكميلان فلم يشكِّل تعليمهما في إيتون وأوكسفورد حياتهما السياسيَّة فحسب، ولكن سنوات الحرب العالميَّة الأولى (1914-1918م) كذلك. والحال كذلك، ففي العام 2007م بعد تخرُّجه في إيتون وأوكسفورد ذهب روري ستيوارت إلى العراق وأفغانستان. في الفترة ما بين (1900-1979م) ظلَّ ربع تعداد الوزراء من خريجي مدرسة إيتون. وفي تلك الجامعة درسوا السياسة والفلسفة والاقتصاد والتاريخ – كما أبنا آنفاً، باستثناء مارجريت تاتشر (حزب المحافظون) التي درست علم الكيمياء، وهارولد ويلسون (حزب العمال) الذي درس علم الإحصاء، وتدرَّبوا في فن الخطابة والسياسة في اتحاد الطلاب، أو ما كانوا يسمونه “برلمان الأطفال” على النهج الديكنزي (أي الطريقة التي كان يلقي بها الروائي الإنكليزي تشارلز ديكنز محاضراته). فكلما كان أحدهم ضعيفاً أكاديميَّاً كلما اعتبر أنيقاً متألِّقاً. فأنظر سايمون ستيفنز، الذي كان مسؤولاً عن هيئة الخدمات الصحيَّة الوطنيَّة في الفترة ما بين (2013-2021م)، وهو الذي كان شهيراً في الجامعة بأنَّه كان أكثر الطلاب تزويراً للواجب المنزلي، وذلك كما وصفته صحيفة الجامعة “شيرويل”. فقد خرَّجت مدرسة إيتون 20 رئيساً للوزراء، بينما جادت مدرسة وينشيستر برئيس وزراء واحد فقط هو هنري أدينغتون في عهد الحروب النابليونيَّة. يُعرف خريجي وينشيستر ب”الويكهاميين”، وذلك نسبة لمؤسِّسها ويليام من آل ويكهام، وقد تميَّزوا بشيء من الذكاء شديد، لكنهم خطَّاؤون في الأساس (Highly intelligent, but fundamentally wrong). إذ تقوم القاعدة الأساسيَّة عند تفوق الإيتونيين على فكرة أنَّ الويكهاميين لا يمتازون في القيادة، لكن جرت العادة أن يخدموا كرؤساء شعب بارعين لا كقادة عليا.
منذئذٍ نشأت بذور خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، الذي عُرف اصطلاحاً ب”بريكسيت”، أي هم أولئك الجيل من الفتية الشبان من خريجي إيتون وأوكسفورد الذين لم يخوضوا معركة، ثمَّ لم تكن لهم دراية بعمل أي شيء، ومن ثمَّ ولجوا أبواب السياسة بموهبة واحدة هي الأداء التمثيلي-المسرحي. وقد أدركنا أنَّ صفقات “البريكسيت” قد تمَّ طبخها في غرفة تحت الأرض في نادي روبين بيرلي، وهو نادي تحتمل عضويَّة خاصة. كان مبدأهم الوحيد الذي استشهدوا به هو الإحساس بأنَّ بريطانيا كانت عظيمة، وينبغي أن تبقى عظيمة مرة أخرى. إذ لم يكن لهم سبب عظيم لجعلها عظيمة – كخوض غمار الحرب مثلاً – ومن ثمَّ ابتدعوا أمراً في المسألة الأوروبيَّة، واستاقوا أهل البلاد إلى قضيَّة الخروج من الاتحاد الأوروبي. هكذا أمست “بريكسيت” تمرُّداً ضد الصفوة، وتحديداً، تمرُّداً ضد الصفوة بقيادة الصفوة. وبعبارة أخرى تمرُّداً قاده معسكر صبية من مدرسة خاصة وجامعة أوكسفورد (بوريس جونسون ودومينيك كومينغز) ضد المعسكر الآخر تحت زعامة رئيس الوزراء ديفيد كاميرون، وجرت الانتخابات كأنَّها نقاش في اتحاد الطلاب. إذا لم يكن قد تمَّ استيعاب هؤلاء الصبية الذين كانت تبلغ أعمارهم 17 عاماً في جامعة أوكسفورد قد لا يكون هناك “بريكسيت” ولا يحزنون.
إنَّ مسألة “البريكسيت” قد حمل لواءها ثلاثة معاصرين من خريجي أوكسفورد الذين خضعوا كلهم أجمعون أكتعون تحت تأثير نورمان ستون، ذلكم البروفيسور في التاريخ صاحب الثقافات المتعدِّدة ومدمن الخمور، الذي خدم من حين إلى آخر كمستشار لرئيسة وزراء بريطانيا مارجريت تاتشر. أولئك الثلاثة هم: الإسكتلندي الشاب باتريك روبرتسون، ودان هنان، ودومينيك كومينغز. الجدير بالذكر أنَّ روبرتسون كان قد تأثَّر بهذا البروفيسور المؤرِّخ، وترك الجامعة في عامه الثاني، وكرَّس جهده لمجموعة بروجز لمعارضي أوروبا، وهي المجموعة التي أنشأها إبَّان وجوده في الجامعة.
للمقال بقيَّة،،،