حول الرِّق.. ماضيه ومآثره (9 من 19)
الدكتور عمر مصطفى شركيان
shurkiano@yahoo.co.uk
ولعلَّ المسلمين في هذا الأمر قد التقوا مع الأغاريق عبدة الآلهة الأخرى في حرمان العبيد من ممارسة الحقوق والواجبات الدستوريَّة في الاقتراع والتملُّك والسلطة وهلمجرَّاً. برغم من أنَّ آراء فلاسفة اليونان، وبخاصة سقراط، كانت تقسِّم المواطنين إلى طبقات اجتماعيَّة بين أحرار وعبيد وأرستقراطيين وملوك، وكان العبيد في أسفل السافلين، إلا أنَّ آراء فلاسفة المسلمين ومؤرِّخيهم ذات المنحى التطوُّري كانت لها صلة بآراء فلاسفة اليونان، وكان أبرزهم إخوان الصفا، وابن طفيل، وابن مسكويه، والقزويني، وأبو بكر الرَّازي، وابن خلدون. وتكلَّموا كلهم أجمعون أكتعون عن مسألة تطوُّر وارتقاء الإنسان. ولعلَّ الرُّقي عند هؤلاء الارتقائيين القدماء والمحدثين ليس هو الرُّقي في المرتبة الاجتماعيَّة والروحيَّة فحسب، بل هو ادِّعاء الارتقاء من الناحيَّة العضويَّة البيولوجيَّة أيضاً. وقد كان لابن خلدون (1322-1406م) في كتاب المقدِّمة ثقة بإمكانيَّة ارتقاء الإنسان وتطوُّره تتجاوز الحدود لتصل إلى القول بإمكانيَّة ارتقاء الإنسان إلى عالم الملائكة؛ إذ يقول: “(يجب) أن يكون للنفس استعداداً للانسلاخ من البشريَّة إلى الملكيَّة لتصير بالفعل من جنس الملائكة وقتاً من الأوقات في لمحة من اللمحات، وذلك بعد أن تكمل ذاتها الروحانيَّة بالفعل (…).”
فضلاً عن ذلك، فقد عرفت المجتمعات الإنسانيَّة في عصور الإغريق حكم الملوك الذين كانوا يرون أنفسهم آلهة، أو رأوا أنفسهم ظلالاً للآلهة في الأرض، فعبدتهم مجتمعاتهم، ورأت أنَّ ما يصدر منهم من أمر أو نهي إنَّما لصادر من الإله نفسه. كذلك عرفت الإنسانيَّة حكم القلة الأرستقراطيَّة أصحاب الامتيازات التاريخيَّة التي استأثرت بالعدل فيما بينها من دون النَّاس، ثمَّ كذلك حكم الطغاة. تأسيساً على ما ذُكر، فإنَّ الذين تحدَّروا من أولئك وهؤلاء استعانوا بما يجيش في نفوسهم من دواعي التسلُّط، واستندوا إلى التاريخ بحثاً عن الأمجاد الغابرة، ثمَّ اقتبسوا من النصوص الدِّينيَّة ما يعضد مزاعمهم، ومن ثمَّ تظنَّت ذراريهم أنَّ هذا هو الحق من عندهم، أو من عند ربهم.
أما أصحاب التفسير العرقي (العنصري) للتاريخ فهم يرون بأنَّ بني الإنسان لا يمثِّلون نوعاً يتساوى أفراده في الخصائص والصفات، التي تساعدهم على العطاء والإبداع الحضاري، وإنَّما هم يتألفون من عناصر أو أعراق متنوِّعة لكل منها خصائصه الطبيعيَّة والنفسيَّة التي تميِّزه من غيره، يتفوَّق أحد هذه العناصر أو الأعراق على غيره في قدراته العقليَّة والإبداعيَّة، التي تؤهِّله لبناء الحضارة وتطويرها. بالطبع هذه فكرة عنصريَّة. ومن أبرز روَّاد الفكر العنصري في القرن التاسع عشر آرثر دي جوبينو (1816-1882م)، الذي استفاد من أحد الكشوف العلميَّة في مجال اللغة، وحاول توظيفه بطريقة غير صحيحة لخدمة الفكر العنصري. ويلاحظ أنَّ أفكار جوبينو كانت امتداداً لأفكار عددٍ من المؤرِّخين والمفكِّرين الألمان الذين دعوا إلى الفكر القومي العنصري من أمثال يوهان هيردر (1744-1803م) برغم من أنَّه كان رئيس قساوسة (كبير الأساقفة) ومؤمناً بالتقدُّم، وقد مزج بين مبدأ العناية الإلهيَّة ومبدأ التقدُّم، ولم ير في ذلك ما يناقض حكم العقل، ويوهان فخته (1762-1814م) الذي أكَّد مسألة تفوق العرق الألماني على سائر الشعوب، وعدَّهم مناط تقدُّم البشريَّة، وفريدريك نيتشه (1844-1900م) الذي أشاد بالعناصر الأرستقراطيَّة التي مارست الغزو في عهد الجرمان الأوائل، ودعا إلى سيادة الرجل الأعلى (السوبرمان)، وتغنَّى بعظمة الفرد الآري، ووصفه ب”الحيوان التيوتوني الأشقر”.” كذلك زعم أرسطو “أنَّ من الناس من خُلق ليأمر، وأنَّ منهم من يُخلق ليطيع”، بذلك لذلك نجده كان قد قسَّم العالم إلى يونانيين وبرابرة.
ثم َّ جاء أدولف هتلر في ألمانيا النازيَّة ووظَّف الفكر العنصري المبني على تفوق الجنس الآري كسياسة رسميَّة للدولة، وشدَّد بأنَّ هذا العرق العالي ينبغي ألا يختلط بالأعراق الدنيا عن طريق المصاهرة والزواج، لأنَّ ذلك سيقضي على نقاوة الدماء التي تجري في عروقه، مما يؤدِّي إلى ضعف حضارته وتدهورها، وكان يرى أنَّ الله خلق هؤلاء الآريين للعزة لا للذلة، وللقوَّة لا للضعف، وللسيادة لا للاستكانة. وكذلك الحال في نظام الفصل العنصري، الذي عُرف ب”الأبارتهيد”، والذي حكمت من خلاله الأقليَّة البيضاء في جنوب إفريقيا منذ العام 1948م، حتى تمَّ إلغاؤه بين الأعوام (1990-1993م)، وأعقب ذلك انتخابات ديمقراطيَّة العام 1994م فاز فيها المؤتمر الوطني الإفريقي، وصار الزعيم الإفريقي نيلسون مانديلا أوَّل رئيس أسود لجمهوريَّة جنوب إفريقيا.
وعوداً على بدء، فما أشعار المتنبي إيَّاها إلا تعزيزاً لهذا التفسير العرقي للحضارة الإنسانيَّة وسيرورة المجتمعات. وقد يعتقد البعض أنَّ المتنبي حين كان يقصِّد أشعاراً من هذا النمط العنصري فإنَّه كان يعبِّر عن نفسه فقط، ولكن هذا غير صحيح البتة لأنَّه كان يعبِّر عن المفهوم الشمولي للعرب في شبه الجزيرة العربيَّة، ونظرتهم للإفريقي الأسود في مخيَّلتهم؛ والفهم الشمولي حين يكون مرضاً فإنَّه ليمسي مستوطناً يستعصى استئصاله. هذا وهم آثم شنيع، تمتلئ به وتضطرب له قلوب العاجزين من النًّاس، وتنتفخ له أوداج الطامعين إلى اضطهاد الأغيار، إذ يستوجب مقاومة هذه النظرة العنصريَّة، لأنَّ أمرها باطل سخيف لا يثبت أمام أيسر التفكير، ولا يستقيم لأهون نظرة في التاريخ الإنساني من جهة، وفي طبائع الأشياء من جهة أخرى. ولكن النَّاس يبغي بعضهم على بعض، ويجب أن يزول هذا البغي وأن نكون نحن مزيليه.
من جانب آخر، عارض دعاة المساواة والاشتراكيَّة مذهب الفلسفة الفرديَّة في البطولة وقيادة المجتمع، أو التفسير العرقي لظاهرة انقسام المجتمع إلى حكَّام ومحكومين، لأنَّ من شأن قبوله أن يكرِّس ظاهرة التفاوت بين النَّاس، واعتبار ذلك بمثابة قانون طبيعي. ومن أصحاب هذا الاتجاه الأمين العام للحزب الشيوعي الإيطالي أنتونيو فرانسيسكو غرامشي (1891-1937م). وفي هذا الأمر دعا غرامشي إلى أنَّه ينبغي خلق الظروف العاملة على اختفاء ضرورة هذا الانقسام الأبدي للجنس البشري، حتى لا يعتبر هذا الانقسام حقيقة تاريخيَّة هي استجابة لأوضاع معيَّنة ذات صلة بنظام الملكيَّة وتقسيم العمل في المجتمع. فتنوع الأفراد في الطبيعة البشريَّة وسيلة تضامن واسع تنشئه المبادلات والتكاملات.
اختلاف ألوان البشر هو سر الحياة، وقد أوجد الخالق هذا الاختلاف في السحنات لتكيُّف الإنسان مع بيئته التي يعيش فيها باردة كانت أم حارة، أم متوسطة الحرارة. وحين أبدع البديع في خلق إنسان جاوة المعروف بالإنسان المنتصب، الذي تمَّ اكتشافه من الأحفورات (الكائنات القدية) في إندونيسيا، أو إنسان نياندرتال، أي الجنس البشراني الذي عاش في أوراسيا (جنوب أوروبا حتى وسط آسيا) منذ 350.000 عام، أو شعوب البانتو في إفريقيا منذ قدم الزمان، أو السلالة القوقازيَّة المنتشرة في الشمال الإفريقي، أو إنسان بكين وهو أحد أشهر أمثلة جنس الإنسان المنتصب الذي عاش قرب بكين العاصمة الصينيَّة لحوالي 250.000-400.000 عام مضى، كان ذلك كله للتماهي مع الظروف البيئيَّة والمناخيَّة – كما ذكرنا سلفاً. عليه فلا ينبغي أن تكون هذه العقابيل مظهراً من مظاهر التباهي والتفاضل والتكامل، حتى تعمى القلوب عن العدل، ومن معاني العقبول بقايا العلة. العدل، إذاً، هو جوهر السَّلام، وأساس العيش في وئام. ومتى ما يئس النَّاس من أن يروا عدلاً يعيشون به، ويستظلون فيه، ثمَّ لم يروا لدعاة الحق أعواناً، حتى تمرَّدوا على الأوضاع القائمة سعياً وراء التغيير إلى ما هو أفضل. غياب العدل هو أس المشكلات السياسيَّة والاجتماعيَّة في المجتمعات اليوم، ومتى ما شاع العدل قلَّ الجنوح إلى النزاعات.
هذا ما كان من أمر الرِّق والعرق على المستوى العالمي وفي مفاوز الأرض ومجاهلها. فماذا كان من أمرهما، إذاً، في السُّودان؟ هذا التسآل الملحاح سنجيب عليه في الصفحات القادمات.
وللمقال بقيَّة،،،