مبادرة الإصلاح الهيكلي والتنظيمي_ الشعبية -شمال: طوق نجاة لمشروع السودان الجديد!!

عبدالغني بريش فيوف
في خضم التحديات الوطنية الكبرى، والتقلبات العنيفة التي تعصف بالبلاد، تبقى الحركات السياسية الحقيقية، تلك التي تعتنق قيم النقد الذاتي، وتفتح أبوابها أمام إصلاح بنيتها الداخلية، وتصحح مسارها التنظيمي بعيدا عن التقديس الأعمى للأفراد، أو تحويل المؤسسات إلى مزرعة خاصة بيد قائد فرد.
ومن هذا المنطلق، نشأت مبادرة الإصلاح الهيكلي والتنظيمي داخل الحركة الشعبية لتحرير السودان -شمال، كتعبير صادق عن إرادة جادة في إعادة الحركة إلى جوهرها، حركة جماهيرية تحررية، تناضل من أجل بناء سودان جديد قائم على الحرية والعدالة والمساواة.
ومع أن المبادرة، وُلدت من رحم الحركة الشعبية، وتستند إلى شرعيتها النضالية والتنظيمية، إلا أنها ووجهت بردود متشنجة من قيادة عبدالعزيز آدم الحلو، التي سارعت إلى وصمها بـالإنشقاق، واعتبارها تهديدا لوحدة الحركة، في مفارقة لا تخلو من مفارقات سياسية وأخلاقية فادحة، تعكس ضيقا بالرأي الآخر، ونفورا من أي محاولة إصلاحية تهدف إلى إنقاذ الحركة من الاستفراد والانغلاق والتكلس.
إن ما يُثار من اتهامات بحق المبادرة، ليس سوى محاولة بائسة لتكميم الأفواه، وإقصاء الصوت الإصلاحي الداخلي، وتحريف النقاش من جوهره التنظيمي إلى تشويه شخصيّ لا يخدم سوى النزعة التسلطية المتفاقمة داخل القيادة الحالية.
جذور المبادرة وشرعيتها التنظيمية..
إن مبادرة الإصلاح الهيكلي والتنظيمي، لم تأت من خارج الحركة الشعبية –شمال، ولم تُبن في الظلام أو تستقوي بجهات خارجية، كما يزعم البعض من انصار الحلو، بل نشأت ومن رحم المعاناة التنظيمية المتراكمة، التي فرضها نمط قيادة فردي احتكر القرار، وقلّص مؤسسات الحركة إلى هياكل ديكورية بلا فعالية.
المبادرة طرحت بوضوح ضرورة العودة إلى المؤسسية، والشفافية، وإعادة الاعتبار لدور القواعد في صناعة القرار، وهي بذلك لا تمثل خروجا على الحركة، بل تمثل دعوة للعودة إلى أصلها وجوهرها، وإلى المبادئ التي انطلقت منها على يد الشهيد د. جون قرنق دي مابيور.
إن الحديث عن الانشقاق هنا، هو قلب متعمد للحقائق، فالمبادرة لم تعلن تشكيل تنظيم جديد، ولم تعلن الانسلاخ عن مشروع السودان الجديد، بل أعلنت سعيها لإصلاح داخلي هيكلي وتنظيمي، يعيد تصحيح الانحراف الذي حدث في المسار التنظيمي والقيادي للحركة منذ سنوات.
.. احتكار الشرعية بين التزييف والواقع
قيادة عبدالعزيز الحلو، تستند إلى تصور متضخم عن ذاتها، وتتعامل مع الحركة بوصفها ملكية خاصة، ووصاية دائمة، وهي بذلك تسقط في خطأ جسيم بتحويل الشرعية النضالية إلى شرعية أبدية لا تُراجع، وكأنما لا صوت فوق صوت القائد، ولا قرار إلا قراره.
الشرعية، كما هو معلوم، ليست نصا جامدا، بل هي عملية مستمرة تستمد قوتها من الأداء، والالتزام بالمبادئ، ورضا القواعد، وأن الشرعية التنظيمية لا تُستمد من البيانات العسكرية وحدها، ولا من التوقيعات التي تُفرض بالقوة، بل من احترام اللوائح، وعقد المؤتمرات، وتوفير البيئة الحرة للنقاش الداخلي.
مبادرة الإصلاح إذن، هي دفاع عن هذه الشرعية، لا خروج عليها، وهي تصحيح لمسار التف عليه القائد الحالي، عندما صادر المؤسسات، وعلق الاجتماعات، ورفض الدعوات لعقد مؤتمر عام يفرز قيادة جديدة بوسائل ديمقراطية شفافة، بعد المؤتمر الإستثنائي عام 2017.
منطق القائد الأوحد والخطر على المشروع..
واحدة من أبرز الأزمات التي تعاني منها الحركة الشعبية –شمال في نسختها الحالية، هي اختزال المشروع النضالي الكبير في شخص عبدالعزيز آدم الحلو، وهذه الشخصية، مهما بلغت قدراتها، ليست بديلاً عن المؤسسات، ولا ضمانة للثورة.
مبادرة الإصلاح، تطرح رؤية جماعية بديلة، تؤمن بأن المشروع أكبر من الأفراد، وأن السودان الجديد لا يُبنى بعقلية القائد الأوحد، بل بالشراكة، والتنوع، والنقد الذاتي، والانفتاح على كافة مكونات الحركة ومجتمعها السياسي والمدني.
إن مصادرة أي تيار داخلي إصلاحي ووسمه بالانشقاق، تعني شيئاً واحداً، وهو أن القيادة الحالية لا تحتمل التعدد، ولا ترى في التنظيم سوى وسيلة لتكريس سلطتها الشخصية، وهذا ما يُعد انقلاباً على مشروع السودان الجديد نفسه، الذي بُني على التنوع وقبول الآخر والتداول الديمقراطي.
تجارب الانشقاق الحقيقي ومقارنة مغلوطة..
حين نتأمل في تجارب الانشقاقات الحقيقية التي مرت بها الحركة الشعبية منذ تأسيسها، نجد أنها كانت واضحة وصريحة في إعلانها للخروج، وتأسيس تنظيمات جديدة تحت مسميات مختلفة، وبرامج مستقلة، وقيادات معلنة.
أما مبادرة الإصلاح الهيكلي والتنظيمي، فهي لم تؤسس تنظيما موازيا، ولم تصدر بياناً تعلن فيه القطيعة مع الحركة الشعبية –شمال، بل تسعى للإصلاح لا الهدم، وللتصحيح لا التشظي.
إن خلط الأمور بهذا الشكل من طرف مجموعة الحلو، ومحاولة جرّ المبادرة إلى مربع الانشقاق، هو أسلوب مقصود لتجريم أي نقد داخلي، ولشيطنة الصوت الإصلاحي، عبر لغة التخوين، وهي لغة لا تصمد أمام المنطق، ولا أمام التاريخ النضالي لحركات التحرر.
مشروع السودان الجديد في مواجهة عقلية الإقصاء..
يستند مشروع السودان الجديد، كما صاغه د. جون قرنق، إلى أسس واضحة، أهمها الديمقراطية الداخلية، واحترام التعددية، والمساواة في الحقوق والواجبات داخل التنظيم، قبل أن يُطالب بها على مستوى الدولة، لذلك فإن أي قيادة ترفض الإصلاح الداخلي وتتهم الأصوات المعارضة بالخيانة والانشقاق، هي في الحقيقة، تفرغ المشروع من جوهره، وتعيد إنتاج نماذج استبدادية تسعى الثورة أصلاً لهدمها.
لقد أصبح واضحا أن قيادة الحلو، لم تعد تتحمل النقد، ولا تحتمل وجود رأي آخر داخل التنظيم، وهو ما يتناقض جذريا مع روح المشروع، الذي لم يكن مشروع شخص، بل مشروع وطن، يقوم على الحوار الداخلي، وتداول الرؤى، وحرية الاختلاف.
المبادرة كنداء إنقاذ قبل الانهيار..
إن الوضع التنظيمي داخل الحركة الشعبية –شمال، لم يعد يُطاق. تعطلت المؤسسات، غابت الاجتماعات الدورية، تمت عسكرة القرار السياسي، وتم تهميش الكوادر القادرة على البناء، لصالح دوائر ضيقة من الولاء الشخصي، ومن هنا، جاءت مبادرة الإصلاح الهيكلي والتنظيمي، كنداء استغاثة داخلي، وصرخة مسؤولة، قبل أن تتحول الحركة إلى مجرد ظل باهت لمشروعها التأسيسي.
تفكيك اتهامات الانشقاق..
لعل أخطر ما يمكن أن تواجهه أي حركة سياسية تحررية، هو أن تتحول آليات المقاومة والنقد إلى جريمة، وأن يصبح أي صوت مختلف خيانة تستوجب الطرد والتشهير، فاتهامات الانشقاق التي توجهها مجموعة الحلو ضد المبادرة، ليست مؤسسة على معايير تنظيمية أو قانونية، بل على منطق القوة والهيمنة والسيطرة على القرار.
من حق أي عضو داخل الحركة أن يطالب بالإصلاح، وأن ينتقد علنا مسار القيادة، ما دام ذلك يتم من داخل الأطر التنظيمية وبوسائل سلمية، وهو ما فعلته المبادرة.
أما تحويل النقد إلى مؤامرة، والمعارضة إلى خيانة، فهو نهج استبدادي لا يليق بحركة تدّعي أنها حاملة لمشروع وطني تحرري.
من أكبر الأخطاء التي تقع فيها بعض القيادات السياسية، خاصة في الحركات المسلحة ذات الطابع التاريخي، هو الظن بأن الحركة، أصبحت امتدادا لذات القائد، أو تجسيدا لشخصه، وكأنها كُتبت باسمه في دفاتر الحيازة القانونية، وهذا الخطأ القاتل هو ما تقع فيه مجموعة عبدالعزيز آدم الحلو عندما تتحدث عن أي نقد داخل الحركة بوصفه تمرداً، وعن كل مبادرة إصلاحية بأنها انشقاق.
الحركة الشعبية –شمال، ليست ملكاً لأحد، ولا وصاية لأحد على تاريخها ومشروعها، ولا احتكار لشرعيتها، إنها حركة قامت على فكرة جماعية، ومشروع وطني يشمل الملايين، لا يمكن اختزاله في فرد مهما عظُم دوره أو كثُر تاريخه.
إن الحديث عن احتكار الحقيقة السياسية والموقف الصحيح، هو ضرب من العجرفة السياسية التي لا تُناسب حركة تدّعي أنها تمثل طموحات المهمّشين وتتبنّى قيم الديمقراطية، فلا أحد أكبر من الحركة، ولا أحد فوق النقد، ومن لا يتقبّل النقد لا يمكنه أن يكون مشروعا لتحرير الآخرين.
أين اختفى المؤتمر العام؟
واحدة من أبرز مظاهر الخلل التنظيمي، والتي دفعت لظهور مبادرة الإصلاح، هي غياب المؤتمر العام للحركة، وتأجيله المتكرر، وغياب إرادة واضحة لعقده، والمؤتمر العام، وفق لوائح الحركة الشعبية، هو أعلى سلطة تنظيمية، ومن خلاله يتم انتخاب القيادة وتجديد البرامج وإقرار الخطط.
قيادة عبدالعزيز الحلو تمسكت بعدم عقد المؤتمر، وتذرعت بالوضع الأمني والظروف السياسية، بينما الحقيقة أن المؤتمر لم يُعقد لأنه سيُفقد القيادة الحالية شرعيتها التنظيمية، ويفتح الباب أمام منافسة حقيقية من داخل قواعد الحركة.
إن مبادرة الإصلاح، تُطالب بعقد المؤتمر العام، لا أكثر ولا أقل، وتعتبر أن كل تأخير إضافي يعني تمديداً غير شرعي لقيادة لم تعد تعبّر عن كامل الحركة، بل تفرض نفسها بقوة التهديد والتخويف.
إن تنظيما يعجز عن عقد مؤتمره العام، ويتهرب من محاسبة قيادته، ويغيب فيه مبدأ التداول الديمقراطي، لا يمكنه أن يبشر بحكم راشد للسودان.
خطورة عسكرة القرار السياسي..
من أبرز ملامح الأزمة الحالية داخل الحركة الشعبية –شمال، هي تغوّل الشق العسكري على المدني، وهيمنة القادة العسكريين على القرارات السياسية والتنظيمية، وهذه الظاهرة، وإن كانت مفهومة في سياق الحركات المسلحة، إلا أنها كارثية إذا ما تحولت إلى نمط دائم.
عبدالعزيز الحلو، بوصفه القائد العام، لم ينجح في الفصل بين مهامه العسكرية ومهامه السياسية، بل عمد إلى تحويل سلطته العسكرية إلى رافعة سياسية لإقصاء المعارضين، وتثبيت سلطته داخل المؤسسات المدنية.
إن مبادرة الإصلاح، تنبه إلى هذا الخطر وتدعو إلى إعادة التوازن داخل التنظيم، عبر إحياء مؤسسات العمل السياسي، وتمكين المدنيين من إدارة الشأن الحركي، ومنع اختطاف التنظيم من قبل العسكر، وإخضاع القيادات العسكرية للرقابة السياسية لا العكس.
إن العسكرة ليست حلاً، بل خطر طويل المدى، إذ إنها تقتل الروح المدنية داخل أي حركة، وتجعلها غير صالحة للانتقال مستقبلاً إلى حزب سياسي قادر على العمل في ظل نظام ديمقراطي.
ما بين التصحيح والانشقاق..
لابد هنا من توضيح جوهري، أن الإصلاح لا يُعادل الانشقاق، وأن تصحيح المسار لا يعني الخروج عليه، بل العكس، إن المبادرات الإصلاحية، تُبقي على جذوة التنظيم مشتعلة، وتحول دون تكلسه أو تحوله إلى أداة بلا روح.
إن الفارق بين من يسعى لتدمير الحركة، ومن يسعى لتجديدها، واضح ومتين، الأول يهدم ليبني مجدا شخصيا، والثاني يصحح ليحمي مشروعا جماعيا.
إن كل وثائق مبادرة الإصلاح الهيكلي والتنظيمي، تُؤكد التزامها المطلق بالحركة الشعبية –شمال، وبمشروع السودان الجديد، وأن معركتها هي مع الاختلالات التنظيمية، لا مع المشروع نفسه، ومع تغوّل الفرد على الجماعة، لا مع الجماعة ذاتها.
هذه هي الحقيقة التي تحاول قيادة الحلو طمسها عبر أساليب التشويه والتخويف والإقصاء.
دروس من الماضي وتحذير للمستقبل..
لقد شهدت الحركات المسلحة في السودان والمنطقة، انقسامات عديدة بسبب غياب الشفافية، واستبداد القادة، وإغلاق الأبواب أمام النقد، وقد انتهت معظم تلك الحركات إلى الضعف أو التفكك أو الارتماء في أحضان التسويات الهشة، فهل نعيد إنتاج تلك المآسي أم نتحرك الآن لحماية ما تبقى من المشروع قبل فوات الأوان؟
إن التاريخ لا يرحم، وسيُسجّل بدقة من الذي قاوم الفساد، ومن الذي تمسك بالكرسي، ومن الذي رفع صوته من الداخل، ومن الذي سحق كل من خالفه، فليختر كلٌ موقعه من هذا التاريخ.
لا إصلاح دون شجاعة..
إن الإصلاح يتطلب شجاعة، لا في إطلاق الشعارات، بل في تحمل تبعات المواقف، ومواجهة السخط، وتحمل حملات التخوين والتشويه، وهذا ما أظهرته مبادرة الإصلاح الهيكلي والتنظيمي، إذ لم تختبئ خلف الغرف المغلقة، بل طرحت مواقفها علنا، وتحملت الحملات الشعواء، ورفضت الدخول في مساومات رخيصة، وتمسكت بالمبدأ.
هذه الشجاعة لا يجب أن تكون استثناءا، بل قاعدة، تُحتذى وتُساند، ليكون الإصلاح تيارا عاما، لا مبادرة معزولة.
من أجل المستقبل لا الماضي..
نكتب هذا المقال، لا دفاعا عن أشخاص، بل عن مبدأ، لا عن مبادرة بعينها، بل عن حق الجماعة في أن تحيا، وعن واجب المؤسسة في أن تُحاسب. نكتبه لنؤكد أن مبادرة الإصلاح الهيكلي والتنظيمي، ليست تنظيما منشقا، بل هي طوق نجاة أخلاقي وتنظيمي للحركة الشعبية –شمال، في لحظة خطرة تتطلب الانحياز للعقل لا للعاطفة، للمشروع لا للزعيم، للمؤسسة لا للسلطة الفردية.
إن مشروع السودان الجديد الذي نحلم به، لا يُبنى بوسائل قديمة، ولا بأدوات سلطوية، بل يُبنى بالإصلاح، بالمؤسسية، وبالشراكة، وبالاعتراف بأن القوة الحقيقية للحركات لا تكمن في سلاحها، بل في قدرتها على النقد الذاتي، والتجديد من الداخل، والانفتاح على المستقبل، ولذلك، فإن التاريخ سيكتب قريبا، أن من واجه الانحراف لم يكن منشقاً، بل كان المُخلص الأخير للمشروع.