آراء

كيف يمكنهم تأسيس السُّودان الجديد بأدواته القديمة؟

عبدالغني بريش فيوف

السودان الجديد، مشروع فكري سياسي وفلسفي، يهدف إلى إحداث تغيير جذري في هياكل الدولة السودانية المهلهلة، ويأتي هذا المشروع الإنساني العظيم في ظل سياق اجتماعي وسياسي وثقافي وديني، رافض لأي رؤى وأفكار جديدة، تنطلق من خارج أُطر دائرة النخب التقليدية التي سيطرت على مركز السلطة منذ خروج الإستعمار، وبرزت هذه السيطرة في الهيمنة الطائفية والأيديولوجية والدينية على كافة مفاصل ومؤسسات الدولة السودانية، مما أدى إلى إنتاج أنظمة دكتاتورية وعسكرية مستبدة متسلطة، كرست للفساد والاستبداد لأكثر من نصف قرن.

إذن مشروع السودان الجديد، كبرنامج سياسي ومشروع تغيير يعمل علي تفكيك بنية الدولة وهياكلها المختلة، لإعادة صياغة الاوضاع الكائنة لتكون منسجما مع جغرافيا السودان وديموغرافيتها، وينسجم مع التنوع والتعدد الثقافي والديني وولخ، لا تختلف عليه القوى الثورية والتيارات السياسية الجديدة التي تحمل مشاريعاً ورؤىً مشابهة. غير أن الأحزاب التقليدية والطائفية والدينية التي كانت دائماً وابداً ترفض أي جديد، رفضت أيضا مشروع السودان الجديد ووصفته بمشروع (الإحلال والإبدال) -أي أنه مشروع يسعى للقضاء على العنصر العربي والإسلامي في السودان.

عزيزي القارئ..

مناسبة هذا المقال، هي تحالف الحركة الشعبية لتحرير، صاحبة “مشروع السودان الجديد”، مع (ميليشيا الجنجويد) وبعض القوى التقليدية والطائفية والإسلامية، بالعاصمة الكينية “نيروبي”، حيث وقعت هذه القوى السياسية يوم 22 فبراير 2025، إعلاناً سياسياً، نص على تشكيل تحالف سياسي مدعومة من ميليشيا الجنجويد.

ويتكون هذا التحالف المسمى “بتأسيس” ونسميه نحن بتحالف “التدليس”، من 24 كياناً سياسياً ومدنياً، ومن أبرزها ميليشيا الجنجويد والحركة الشعبية لتحرير السودان وحزب الأمة القومي بزعامة اللواء برمة ناصر والحزب الاتحادي الديمقراطي، وحركة الطاهر حجر وسليمان صندل والهادي ادريس.

ونصّ الدستور، الذي وقعه المتحالفون، على إلغاء الوثيقة الدستورية الانتقالية لسنة 2019، وكل القوانين والقرارات والمراسيم الصادرة بموجبها، وإعلان السودان، دولة علمانية ديمقراطية لا مركزية تقوم على فصل الدين عن الدولة، وفصل الهويات الثقافية والعرقية والجهوية عن الدولة، وتأكيد المواطنة المتساوية أساساً للحقوق والواجبات.

لكن السؤال المهم الذي يطرح نفسه بعد التوقيع على هذا الميثاق، سيما من قبل الحركة الشعبية لتحرير السودان، هو: هل يمكن بناء السودان الجديد بأدواته القديمة -أي بذات القوى التقليدية والطائفية والحزبية القديمة التي رفضت أي جديد منذ عقود؟

للإجابة على السؤال اعلاه، لابد من ايراد بعض المبررات التي يتحجج بها الرفاق بالحركة الشعبية لتحرير السودان عند السؤال عن تحالفهم مع ميليشيا الجنجويد وأدوات السودان القديم. وإليكم بعضاً من تلك المبررات والحجج التي يتمسك بها الرفاق:

1/أن هذه الأدوات قبلت بشعارات السودان الجديد.

2/أن ميليشيا الجنجويد ادركت أنها كانت مغشوشة من قبل المركز، والآن عادت إلى حضن الهامش.

3/الموقعون على ميثاق التأسيس، قبلوا بعلمانية الدولة السودانية وبحق تقرير المصير للمنطقتين.

4/قالوا إن التوقيع على هذا الميثاق، أهم حدث في تأريخ السودان، كوّنه جمع اعرق واقدم حزبين تقليديين في السودان.

تلك هي بعضاً من مبررات الرفاق في تسويقهم للتحالف مع ميليشيا دولة العطاوة وادوات السودان القديم من القوى الطائفية والإسلامية.

عزيزي القارئ..

لا يسعني، سوى القول ان هذه الحجج التبريرية المقدمة من الرفاق، انما  مثيرة للشفقة بدل السخرية… إن الرفاق بهذه المبررات، يسوقون التفاهة ويروجون لأوهام الكهف باعتبارها حقائق، بل يحاولون كذباً اشعار الناس بإنجازات ليست على أرض الواقع، وبمتعة (هلامية) مُصطنعة لا تراها العين ولن تراها ابداً.

القول ببناء السودان الجديد بأدوات أكل عليها الدهر وشرب، انما بلطجة وانتهازية سياسية والشعور بالتسوية بأي ثمن، بل بيع للأوهام، لأنه لا يتصور وجود حزب الأمة والاتحادي في الحياة السياسية، دون استخدامهما لشعار “الإسلام هو الحل” والذي بمجرد رفعه، تسقط معه جميع الشعارات العلمية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

نعم، لا يمكننا ابداً ابداً، تصور وجود الحزبين التقليديين -الأمة والإتحادي، في الحياة السياسية السودانية، دون أن يرفعا المصحف عالياً، وبمجرد رفعه، تسقط كل الكتب الأخرى على الأرض وتمزق وتداس بالأحذية.

البرنامج السياسي لهذين الحزبين في التعامل مع جماهيرهما في القضايا المعيشية والمصيرية، هي تلك الخطب الكهنوتية، لأنها تريحهما من قلق المعرفة وتعفيهما من أسئلتها الحارقة.. خطب دينية لدغدغة العواطف وتنويم العقول بالتغبية، واستخدام لغة بيانية تلهب الحماسة لاستدرار عطفها طمعا في استمالتها، مستغلا ثقتها العمياء بالمقدس والديني.

إذن، حزب جعل من برنامجه السياسي، محاربة العقلانية والإبداع الحر، وإغراق الجماهير في هذيان الخطاب الديني، ليصبح هو المتحكم الوحيد في تفكيرها وسلوكها اليومي.. لا يمكن لهكذا الحزب أن يقبل (بالعلمانية)، وغبي وساذج أحمق كل من يعتقد أن اللواء فضل الله برمة ناصر وإبراهيم احمد الميرغني، اللذان وقعا على ميثاق “التأسيس” بنيروبي، سيقبلان بعلمانية الدولة السودانية!!

                               ********

أما ميليشيا الجنجويد، صاحبة ميثاق “التدليس”، فهي ليست حركة نضالية تحررية أو مؤسسة منضبطة لها أهداف، انما جماعة متوحشة من “البدو العرب”، وسنكتفي هنا بإيراد ما قاله ابن خلدون عن العرب بمختلف جغرافيتهم في مقدمته بما فيهم بالطبع ناس حميرتي.

باب.. في أن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب…

(والسبب في ذلك أنهم امة وحشية باستحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم فصار لهم خلقا وجبلة، وكان عندهم ملذوذ لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم وعدم الانقياد لسياسة وهذه الطبيعة منافية للعمران.

فالحجر مثلا أنما حاجتهم إليه لنصبه أثافي القدر، فينقلونه من المباني ويخربونها عليه ويعدونه لذلك، والخشب أيضا أنما حاجتهم إليه ليعمروا به خيامهم ويتخذوا الأوتاد منه لبيوتهم فيخربون السقف عليه لذلك فصارت طبيعة وجودهم منافية للبناء الذي هو أصل العمران هذا في حالهم على العموم.

أيضا طبيعتهم انتهاب ما في أيدي الناس، وان رزقهم في ظلال رماحهم وليس عندهم في اخذ أموال الناس حد ينتهون إليه بل كلما امتدت أعينهم إلى مال أو متاع أو ماعون انتهبوه.

لا يكلفون على أهل ألأعمال من الصنائع والحرف أعمالهم ولا يرون لها قيمة ولا قسطا من الأجر والثمن.

ليست لهم عناية بالأحكام وزجر الناس عن المفاسد ودفاع بعضهم عن بعض أنما همهم ما يأخذونه من أموال الناس نهبا وغرامة.

وأيضا فهم متنافسون في الرئاسة وقل أن يسلم احد منهم الأمر لغيره ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته إلا في الأقل وعلى كره من اجل الحياء ، فيتعدد الحكام منهم والأمراء وتختلف الأيدي على الرعية في الجباية والأحكام .. فيفسد العمران وينقض.)

ما قاله ابن خلدون عن العرب والعُربان قبل مئات السنين، قد قامت بها ميليشيا الجنجويد العُربانية.. ففي المدن والمناطق التي دخلتها، استخدمت عوائد التوحش في قتل المواطنين الأبرياء.. فآثار المتحف القومي مثلا، فقد تم خرابها، بإعتبارها “أصنام”.. واتخذوا من النساء كسبايا، وبيع بعضهن في أسواق (الضعين ونيالا وغيرها).. واما رزقهم، فهو النهب والسرقة التي لا حد ينتهون إليه.. وقد دمروا الطرق والكباري والمعالم الكبيرة والصنائع، لأنهم لا يرون لها قيمة.. ليست لهم عناية بالأحكام وزجر الناس عن المفاسد ودفاع بعضهم عن بعض أنما همهم ما يأخذونه من أموال الناس نهبا وغرامة.

            *******

وجماعة بهذه الفظاعة والوحشية وبهذا السوّاد من التأريخ، لا يمكنها أن تؤسس لسودان جديد، إذ إنَّ بناء السودان الجديد ليس مجرد شعارات تُرفع هنا وهناك، انما يلعب الفهمّ لهذا المشروع الإنساني، دوراً اساسياً في نجاحه من عدمه.

يدهشنى كثيرا حالة الشبق التى يعيشها قادة وأعضاء تحالف التدليس، ويدهشنى أكثر تصديقهم لكذبة اخترعوها ألا وهى أنهم وحدهم يستطيعون بناء السودان الجديد.. لكن تناسى هذا التحالف “التدليسي” أنه، تحالف متناقض، شكلا وموضوعا، إذ لا شيء يجمع بين مكوناته، سوى الرغبة في المناصب الحكومية التي يعتزمون تشكيلها تحت مسمى حكومة (السلام).

إن التسابق الحالى على المناصب والوزارات وتوزيع الجوائز لكل من يتمسح بهذا التحالف، وصل إلى الذروة بشكل لا يطيقه حتى مؤيدييه، الذين يطالبون بإنهاء الحرب أولاً قبل التفكير في تشكيل أية حكومة!! إذ أي شعبية تمتلكها أحزاب وحركات التحالف، وأغلبها أحزاب أكل عليها الدهر وشرب، وحركات لا وجود لها في الواقع.

عزيزي القارئ…

مشروع السودان الجديد، ليس مجرد شعار جوفاء يرفعه كل غبي وجاهل. إنه مشروع شامل يحتاج نجاحه لفهمّ عميق، يستند إلى أسس سياسية واقتصادية واجتماعية متينة، ويتطلب تصميماً دقيقاً، وهذا ما لا يتوافر في تحالف “التدليس” الجنجويدي. وأن تأسيس هذا السُودان الجديد، لا يتحقق باللواء الديناصوري بُرمة ناصر ولا بالصنم محمد عثمان الميرغني ولا بميليشيا الرفيق “حميرتي”، ولا بالخوانجية -أمثال سيلمان صرصور والهارب ادريس والطارد حجر. وكفانا استخفافا والتهريج الإعلامي الذي يهدف إلى تسطيح العقول. وكفانا تسويقاً للوهم على أنه أمل، لأن الشعوب السودانية تُدرك قيمتها ولا يمكنها أن تُهزم بالكلمات المزيّفة، ولا تنخدع بمسرحيات الاستهبال السياسي، ولتسقط الأقنعة، ولنؤسس للسودان الجديد الحقيقي من دون نفاق واستهبال وتدليس.

Author

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى