فنون وثقافة

لا نهائية الكون في معرض السودانية كمالا إبراهيم إسحق

لندن ـ «القدس العربي»:

ليست الريادة وحدها، في مجال الفن والإبداع، هي التي منحت الفنانة السودانية كمالا إبراهيم إسحق مكانتها الرفيعة بين منتجي الصور في افريقيا والعالم – بوصفها من أوائل خريجات كلية الفنون الجميلة في السودان سنة 1963؛ عناوين كثيرة في سيرتها ومسيرتها العامرة بالمثابرة، والاستمرارية في العطاء، خلال ست عقود من الزمان منحت اسمها ألقه الخاص ووسمته بالجدارة والاستحقاق. وكمالا، مواليد سنة 1939 أكملت دراسة الرسم والتوضيح (الكرافيك) والطباعة الحجرية في الكلية الملكية للفنون في لندن (1964-1966) قبل أن تعود لتدريس الفنون في السودان نحو عقدين من الزمان؛ انخرطت خلالها في نشاط فني وإبداعي أثرت به الساحة الفنية وحوارات فكرية باذخة مع أبناء وبنات جيلها والأجيال الجديدة، طرحت من خلالها أفكار ورؤى متميزة، شاركت في «مدرسة الخرطوم» الشهيرة ووقت على البيان «الكرستالي» مع الفنان محمد حامد شداد ونايلة الطيب والشاعر محمد المهدي المجذوب؛ وامتدت مساهماتها في الساحة الفنية والإبداعية، في تشكيل خلفيات لعروض مسرحية وأغلفة لمجلات ورسوم داخلية وأغلفة لكتب شعرية، على جانب معارضها الفنية داخل وخارج السودان، سنة 2019 حصلت على جائزة الأمير كلاوس، ولا تزال تحظى بالتكريم إقليمياً وعالمياً.
لوحات زيتية كبيرة الحجم، وأعمال فنية على الورق بجانب مصنوعات يدوية ولوحات تمّ تنفيذها على سطوح طبول جلدية لها دلالاتها الصوفية، وأعمال تصميم كرافيكي، ومواد من إرشيفها الشخصي، هي قوام معرض الفنانة كمالا إبراهيم إسحق الاستعادي في « the Serpentine Galerries» في لندن؛ افتتح في 7 أكتوبر/ تشرين الأول ويستمر حتى 29 يناير/ كانون الثاني 2009، يُعدُّ المعرض امتداداً لمعرضها الاستعادي الأول (نساء في مكعبات بلورية) – مؤسسة الشارقة للفنون سنة 2016.

رحابة الأبعاد الأخرى

تقول كمالا: « قد يلاحظ الرائي لأعمالي حضور كثير من الوجوه، خاصة وجوه النساء داخل ما يبدو كمكعبات شفافة، أو بلورات أو ما يشابه من أشكال… دفعني إليها في البدء وضع المرأة وعزلتها الموحشة، لكن سرعان ما تأكد لي أن المرأة ليست وحدها في هذه العزلة، الرجل أيضاً يعاني في قلب عزلته، وكان أن تجسَّد هذا الحيز- القيد، في أعمالي؛ ومسألة عزلة الإنسان قادتني إليها انتباهة عميقة سنة 1966 في لندن وأنا أشهد انعكاس وجوه الناس الواقفين على أرصفة محطات تحت الأرض – ينتظرون القاطرات، كنت ألاحظ تغيّرات عجيبة على نِسَب الوجوه والأجساد، الأمر الذي أيقظ في داخلي الحماس للعمل بهذا المنظور البصري – الفكري، ولفت نظري أن بعض الطلاب في كلية الفنون الجميلة في السودان، كانوا يحاولون خلق أشكال على هيولى لونية شفافة، فبدأت معهم حواراً، مكَّن له وجود تماس بيني وبينهم، ما قاد إلى فكرة «البلَورية» التي تعاملت معها مبكراً وبصورة فردية».
وتستطرد: «وعلى كلٍّ أرى أن «البلورية» ليست اتجاها مدرسيا يتم في حصر العاملين به وفق تنظير محدد، بقدر ما هو دعوة للإسهام في الفن والفكر بصورة عامة؛ لم أفكر يوما في وضع تنظيرات للعمل في هذا الإطار، بقدر ما يعني الأمر بالنسبة لي «الإبداع» عمليا، وأعتقد أن الوجه الإبداعي العملي تشكيلياً فيه ما يتجاوز كل حدود نظرية وأرى أن الرسم في بعدين فقير وغير ذي بال. الخروج بالعمل الفني من البعدين إلى رحابة الأبعاد الأخرى من بعد ثالث ورابع وما فاقه- لو جاز ذلك، هو القصد والسعي، وهو ما يسمونه بـ «الما وراء» والفن من وسائل التعرف على لا نهائية هذا الكون وتعدد مستويات الوجود؛ أنا هنا أشارك وأرى مع كثير من المنتجين الذين حققوا مساهمات واضحة في الحركة التشكيلية السودانية، في كل لحظة نحن أمام مشهد جمالي جديد، يتجاوز معارفنا وخبراتنا الجمالية السالفة».

منطقة لونية غير مستكشفة؛ درس كمالا

التشكيلي حسن موسى يقول: «أتذكر عندما وصلت إلى قسم الرسم سنة 1971، كانت كمالا هي المعلمة الوحيدة التي عملت مع الطلاب في الاستوديو نفسه، عندما أقول، «لقد عملنا مع كمالا» أعني أن الطلاب كانوا يتشاركون المساحة المادية، بالإضافة إلى النظرة النقدية على أعمال بعضهم بعضاً؛ في ذلك الوقت كنت منخرطًا بعمق في الجانب التمثيلي الواقعي لصنع الصورة؛ كنت حريصا جدًا على اكتساب المهارات الأكاديمية حول الحياة الساكنة وصناعة البورتريه وما إلى ذلك، حد أنني اعتدت مشاهدة صور كمالا كبيرة الحجم وهي تتحول تحت عيني كتمرين غريب؛ درجت كمالا على أن تبدأ رسم صورتها بفرشاة كبيرة مغموسة بزيت «التربنتين» الرمادي، تظهر الصورة الأولى مثل «شبح» رمادي مع عدة خطوط عمودية ناتجة عن تدفق الطلاء المتدفق على الأرض، بعد هذه المرحلة الأولى، تستخدم الفرشاة لنشر طبقات من الأحمر أو الأزرق أو الأسود على السطح، ولكن في كل مرة تقدم لونا تدلكه فوراً بقطعة من القماش، يبدو أن قطعة القماش التي يستخدمها الرسامون عادة لتنظيف الفرشاة تحلُّ محل الفرشاة عندها، أو ربما أصبحت في يدها أداة رئيسية.
بالنسبة لبعض زملائي في الفصل، بدا استخدام قطعة قماش متسخة في الرسم كأنه تدنيس للمقدسات، لكنني كنت مفتونا باستخدامها لقطعة القماش كأداة للرسم؛ في بعض الأحيان، تعود كمالا إلى اللوحات القديمة، تمحو صورتها بطبقات من الرمادي أو البني، وتستعيدها بطبقات جديدة من الألوان قبل تطبيق عملية الحك والتلميع. تخرج صورة كمالا من التداخل المتتالي للطلاء الذي تم تفصيله بعناية من خلال الفرك والتلميع وأحيانا الكشط بسكين طلاء؛ هذه الإجراءات مكنتها هذه من بناء صورة أحادية اللون، لكن عندما تنظر باهتمام إلى الصورة ، تدرك أنها بعيدة كل البعد عن كونها أحادية اللون، إنها نتيجة قفزة جريئة في منطقة لونية غير مستكشفة؛ حرية كمالا في التعامل مع أدوات الرسم درسا تلقيته خارج نطاق الكلمات».

جدارية فضّ الاعتصام

التشكيلية أميمة حسب الرسول: رغم اهتمام كمالا الواضح بالمرأة وانحيازها لها تشكيلياً، تناولت أعمالها مواضيع مختلفة عن نشأتها ومدينتها وعن تأثرها بالأحداث السياسية، ومن أهم أعمالها الجديدة «جدارية»عن مجزرة «فض اعتصام القيادة العامة» في يونيو/ حزيران 2019 لتضع الفن في خدمة الثورة وتخلد شهداءها الذين ألقى بهم الطغاة في مياه النهر، اللوحة الجدارية تصوَرهم في شكل دوائر مختلفة الأحجام يمثل بعضها دائرة كبيرة تحوي في داخلها عدداً من الدوائر الصغيرة التي شُكِّلتْ لتمثل وجوهاً طافيةً في اللون الأزرق، وتبدو وجوه الشهداء وقد طلعت منها أغصان مورقة، مخضرة، تتجه إلى الأعالي لتعلن عن حياة جديدة للثورة، وتواصل واستمرار للنضال؛ اللوحة يغلب عليها اللون الأزرق واللون الأبيض والبني والأخضر؛ رغم أن لوحات كمالا تتسم في الغالب بالألوان الترابية، البنّي بدرجاته المختلفة واللون البيجي، هذه اللوحة ضمن مجموعة أعمالها الحديثة تعلن عن مرحلة زرقاء ترمزُ لثورة ديسمبر/كانون الأول المجيدة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى