آراء

اهلنا النوبة

شوقي بدري

قبل يومين كنت في طريقي لزيارة اخى العزيز دانيال ملاميد الذي اقعده تقدم السن وكثرة التدخين  الذي اضر برئته   وقلل من قدرته على التحرك . وفجأة شاهدت صورة ابني  الذي يحمل اسم اعز الناس طيب الله ثراه بله او ،،جاك ،، الاسم المحبب الى الجميع . لقد انتقلت منظمتهم الى مينى جديد وهم ثاني اكبر شركة عقارات في كل اسكندنافية . صورة  ابني كانت تظهر منذ عدة سنوات في الملصقات واعلانات الطرق والتحمعات  التجارية كاعلان للشركة . هذه المرة كانت الصورة كانت على واجهة الشركة وتسبح في الضوء طيلة اليوم والليل .

توقفت وطلبت من السيدة في رفقتي أن تلتقط لي بعص الصور . كنت اتذكر الانسان الجميل الذي كانت والدتي رحمة الله عليها تقول دائما … ياولدي ربنا يرضى عليك ويسويك زي بله اخوك ده . كنت احاول أن اكون مثل بله ولكن هيهات .

كان من المفروض أن اعود من براغ بهد شهور واتزوح احدى شقيقات توآم الروح بله . دخلت في مشاكل مع الشيك والشيوعيين السودانيين . وعندما اتى رجل الامن على صديق لبراغ في صحبة نميري ووفد كبير اخبروه بأني اطالب بتقرير المصير للجنوبيين  ــ والحرب كانت دائرة ــ وانا اعارض مايو . وعد بأخذي الى كوبر في اقرب فرصة  . تسللت الى السويد  لاني كنت في قائمة مايو السوداء . وتزوج البنات من هم خير مني .

هذه الايام اتذكر اهلنا النوبة . وكنت قد كتبت محموعة من المواضيع عن اهلنا النوبة اختار لكم احدها . سنسمع …. أن الوقت ليس مناسب وانني ادعو الى الفتنة . ينسى الكثيرون ما حدث يحدث وماسيحدث للنوبة من ظلم .

اقتباس

النوبة المظلومون

ليس هنالك مجموعة سودانية قدمت و ضحت أكثر من النوبة . و ليس هنالك مجموعة سودانية تعرضت للظلم و عدم الفهم مثل النوبة .

بعد فترة قصيرة من انقلاب 25 مايو بواسطة القوميين العرب و جزء من الحزب الشيوعي السوداني , تواجد اعضاء مجلس قيادة الثورة في منزل العم عوض ابو زيد كالعادة . مجموعة مايو كانوا يجتمعون في ذلك المنزل منذ بداية حياتهم العسكرية . و كانوا مثل أغلب الشباب في تلك الفترة يجتمعون للعب الورق , و شرب الخمر , أو تدخين البنقو . كان الاخ مامون رحمة الله عليه يظبط لهم حلة عكو لأن والده كان جزاراً , و العكو هي ذنب العجول أو الثيران. .

عندما دخل الاخ- العم النعيم المشهور بحطب رحمة الله عليه و هو احد فتوات امدرمان  و خال مامون عوض ابو زيد منزل اخته , وجد اعضاء مجلس قيادة الثورة في حالة لعب ورق و سكر و بنقو , فقال مستخفاً : ( بالله انتوا حكومة ؟ و الله انتوا حكومة نوبة ).

هذا الكلام كان يصدر بقصد أو بدون قصد . و بعض النوبة كان يحب شرب المريسة , و هذا نشاط كان يمارسه كل السودانيين . و كانت المريسة تصنع في كل البيوت . و لكن النوبة كانوا يظلمون عندما يرتبط اسمهم بالمريسة أو شرب المريسة و السكر و التخلف . .

امدرمان كانت تحتوي على ثلاثة احياء . كان اغلب سكانها من جبال النوبة . أولهم فريق تقلي , و هو الحي المحصور بين المستشفى و السوق الكبير, و الكلية, أو مدرسة امدرمان , و من أهل تقلي الشيخ التقلاوي الاستاذ , و الداعية الاسلامي , و أول انصار السنة . و هذا قبل الشيخ حسون و الشيخ الهدية . الحي الثاني هو فريق فنقر , و فنقر احد الجبال في جبال النوبة . و الحي محصور بين فريق فلاته و خور ابو عنجة و فريق السروجية  و يجاوره فريق عتالة من الجنوب . يتواجد النوبة في فريق تاما وكان محصوراً بين شارع الاربعين و خور ابو عنجة و أشتهر أهل تاما بصناعة الفخار من ازيار و برام و كناتيش … الخ . و لا يمكن ان ننسى ان هنالك حي اسمه ود نوباي , و هو من اكبر احياء امدرمان .

و النوبة أهل عزم و نشاط . و لهم مقدرة على تحمل الصعاب و الشدائد . و لقد عملوا بجد في كل السودان . و هم أبعد الناس عن الكسل و التبطل و يؤدون كل الأعمال . في بداية حكم الادارة الانجليزية , كان الدينكا يمثلون 5 بالمائة من سكان امدرمان حسب الاحصاءات . و هذا يعنى الذين هم يحملون دماء الدينكا مائة في المائة , و لكن كانت هنالك مجموعة مقدرة من لهم اصول دينكاوية مثل الامام عبد الرحمن المهدي و آخرين . و لكن من المؤكد أن عدد النوبة في امدرمان كان  اكثر من عدد الدينكا . و لم يخل أي شارع في منطقة العباسية من أسرة نوباوية . كما كان لهم وجود ملموس في بانت و في ابكدوك و في التلتميات و هذا حي في غرب بانت , عرف بالتلتميات لأن المساحة كانت صغيرة جداً بالمقارنة بحيشان امدرمان و هي 300 متر مربع .

مدخلي الى الحي كان أخي عبد المنعم عبدالله حسن عقباوي و كان والده مقاولاً في امدرمان و هو من احسن المقاولين سمعةً . و كان لهم أكثر من منزل في التلتميات . و كانوا يسكنون في الموردة . و كنت أقوم بصبغ الشبابيك و الابواب بالبوهية و انا في السادسة عشر , مع عبد المنعم عقباوي و كان يساعدنا صديقنا عبد الله ناصر بلال .

و الأسرة التي كانت تستأجر احد تلك المنازل كانت قد انتقلت الى امدرمان قبل فترة قصيرة من جبال النوبة . و كان والد الاسرة و اثنين من ابناءه يذهبون الى العمل في الصباح و يأتون في المساء . و كانت زوجته و والدتها و ابنته الشابة التي كانت في عمرنا يبالغن في نظافة المنزل و تقوم الابنة بالطبخ . و نحن نختلس نظرات الاعجاب بسبب جمالها . و لاحظت كذلك ان بعض الاسر من جبال النوبة كانت تستأجر منازل في تلك المنطقة .

الذين كانوا يؤجرون منازلهم الى أهل جبال النوبة , كانوا لا يجدون أي مشكلة في تسديد الاجارات . فالنوبة يوفون بوعدهم و لا يمارسون الخداع و الكذب . و يندر ان تجد نوباوياً متبطلاً . و لهم مقدرة ان يمارسوا أي عمل . و أحترامهم للعمل كان يجعلهم يمارسون الأعمال التي ينفر منها الآخرون . و كان الغير متعلمين منهم و من لم يجد فرصة في الجندية في الجيش أو البوليس يعملون في البلدية و يكنسون الشوارع و يجمعون القمامة . و كانوا يؤدون أكبر خدمة للمجتمع , لأنهم كانوا يحملون على رؤسهم الفضلات البشرية و لا يتأففون

كما أوردت في حكاوي امدرمان فأنني تعرفت ببعض من يقومون بتلك الخدمات للمجتمع السوداني . أحدهم عبد العزيز الذي كان يجالسني في قهوة مهدي حامد في السوق . و عرف عبد العزيز جهار لانه كان يردد عادةً جملة ……. أبو أي جهاز . و منهم اربعة حمير الذي كان من ابطال المصارعة في ميدان الربيع . و كوكو و يو يوي  المصارع . و هؤلاء قاموا بالعمل الذي لم يستطع ان يقوم به الآخرون .

النوبة عملوا كحمالين في كل قطاعات الانتاج السوداني أو عتالة مثل الهوسا و الفلاته . و عملوا كخدم في المنازل و عملوا كمكوجية و غسالين في الاحياء و لم يتذمروا . و لقد كان النوبة هم العمود الفقري للجيش السوداني . و أمتازوا بالصبر و قوة التحمل و القوة الجسدية , و الشجاعة الفائقة و الانضباط الذي بدونه تفسد الجندية . و لقد وظفهم الانجليز لأن الكثير من ابناء الوسط كانوا يعانون من ضعف الرئتين و نحافة الساقين . كما هو مذكور في التقارير الطبية . النوبة تسقوا الجبال وقويت سيقانهم ورئتهم .

لقد أعطى النوبة اسماً رائعاً للجندي السوداني . و لقد حاربوا في المكسيك عندما احتاجت الحكومة لقمع المتمردين وخلقوا اسطورة لا تزال تذكر تطرق لهم الكاتب الكولمبي والحائز على جائزة نوبيل للادب  قابريل قارسيا ماركيز .  لقد صنعوا هنالك اسطورة سارت بذكرها الركبان , و كان ظهور حفنة من الجنود النوبيين في المكسيك يثير الرعب في قلوب اعدائهم . كما كانوا يشكلون جزءاً مهماً في حرس الحدود المصري لشجاعتهم و أنضباطهم و أمانتهم و عدم تقبلهم للرشوة , التي كانت تعرض لهم بواسطة المهربين و تجار الحشيش . ظهور اثنين من الجنود السودانيين و بيدهم الكرباج كان يجعل المتظاهرين في القاهرة يهربون . و هذا ما أراد ان يعيده المصريون في ميدان التحرير فيما عرف بواقعة الجمل . و لكن هنالك فرق بين الجندي النوباوي و فرسان الهرم .

في سنة 1882 و في معركة التل الكبير في مصر , و عندما ظهرت طلائع الجيش البريطاني , هرب الجيش المصري المكون من 180 ألف جندي , و بقيت فرقتان سودانيتان ,  الكثير منهم  من ابناء النوبة لم يهربوا . و من بقي منهم احياءاً كانوا يجد الاحترام من الجيش البريطاني . و عندما يمر ابناء النوبة وبقية الاسرى كان الضباط الانجليز ينتصبون واقفين و يؤدون لهم التحية . .

في كتاب حكاوي كانتربيري السودانية , و الذي هو ذكريات المسئولين البريطانيين في السودان , نجد أن البريطانيين في حروب اثيوبيا و اريتريا فروا هاربين امام الهجوم الايطالي الضخم . و أضطر رئيسهم الضابط كامبل ان يطلق الرصاص عليهم من مسدسه . و لكن ابناء النوبة ثبتوا و صدوا الهجوم الايطالي بالرغم من عددهم القليل. .

نحن الشماليون نفتخر بشجاعتنا و قوتنا و قوة تحملنا , و نفتخر بأننا نستحمل الكرباج و البطان . و البطان عبارة عن سوط واحد ثم يقفز الانسان و ياخذ هزة و يرجع مرةً اخرى . و لكن دعوني احدثكم عن الوشم عند النوبة . و انا في الثالث عشر من عمري شاهدت احد شباب النوبة و هو يسند ظهره على  جذع شجرة و شاهدت صديقه يخرج موس حلاقة جديدة . و لفترة ساعتين كان ذلك الجسم القوي يتعرض لتقطيع و تشريط في شكل مثلثات و اشكال هندسية . و الشاب يدردش معي و كأنما الذي يتعرض للتقطيع هو قماش دبلان و ليس جلده , و كان يضحك في بعض الاحيان مما يجبر صديقه للتوقف . و عرفت أنه يجب ان يتعرض لتلك العملية لأنه مقدم على الزواج . و بعد ان اكتملت اللوحة  الهندسية اردت ان احضر ماءا لكي يغسل الشاب جسمه . إلا أنه قال لي ضاحكاً ان الماء لا يصلح و لا يساعد في الشفاء . و اكتفى بدلك الدم بقوه حتى زال من جسمه . و كان يتصرف و كأنه يقوم بدلك جزع الشجرة التي يستند عليها , و ليس جسمه الذي تعرض للتقطيع . هذا الوشم كذلك تتعرض له النساء و يتحملنه بكل سهولة .

في سنة 1958 تخرجت الدفعة العاشرة من الكلية الحربية و هذه أكبر دفعة تتخرج بعد الاستقلال و كانت مكونة من ستين ضابطاً أثروا و مازالوا يؤثرون على الحياة السودانية . فدفعة نميري و عوض احمد خليفة و الآخرين كانت مكونة من حوالي 10 ضباط . و دفعة اللواء الباقر نائب رئيس الجمهورية كانت مكونة من 7 ضباط مثلاً . و أول تلك الدفعة الكبيرة  كان الضابط بابكر عبد المجيد علي طه . و الأول كان من المفروض ان يكون ضابطاً آخر , الا انه تحصل على درجات متدنية في الانضباط و السلوك , فقال له اللواء احمد عبد الوهاب و رئيس الجيش السوداني وقتها : ( انت كان مفروض ان تكون الأول ) ثم التفت الى بابكر عبد المجيد علي طه : ( انت حكايتك شنو , سنتين في الكلية دي اولاد النوبة ديل ما يجبوك لي في اي مخالفة , حكايتك شنو انت نبي ؟) . و الاشارة الى ابناء النوبة هنا هو المقصود به الجندي . فصار كلمة ود نوبة مرادفة للجندي . فكل الضباط الذين عرفناهم كانوا يتحدثون عن أولاد النوبة الذين دربوهم على البيادة و الانضباط و ضرب النار . و أشتهر النوبة بأنهم خير من يصيب الهدف . السمعة الجميلة التي اكتسبها الجندي السوداني في ليبيا و اثيوبيا و حرب فلسطين كانت بسبب الافراد السودانيين و اغلبهم كانوا من ابناء النوبة . حتى في ايام الرومان كان الناس يتحدثون عن روعة المحارب واتلمصارع النوباوي . و عندما يحتفل بالتراث السوداني تقدم رقصة الكمبلة . و لا يزال السواح يذهبون الى امدرمان لمشاهدة مصارعة ابناء النوبة في حمد النيل . و لا تزال الملصقات و الصور التي تمثل المصارعة و رقصة الكمبلة هي ما يزين حيطان القنصليات و السفارات و المؤتمرات  السودانية . فلماذا نحتفل بالنوبة في المحافل الدولية و نظلمهم في الحياة اليومية ؟

كان لأبناء النوبة وجود مكثف في البوليس بكل انواعه , حتى السواري . و كانوا جد منضبطين . لا يتساهلون لا يحابون أي انسان و لا يتقبلون الرشوة . الوالد عبد الله دلدوم كان احد شاويشية البوليس و هم يحسبون بالاصابع في امدرمان . و صار صديقي و ابنه عطا المنان رجل بوليس كذلك . و ابنه حسن صار رجل اطفائية . و العم عبد الله دلدوم كان موضع احترام و  يعتبر من اعلام امدرمان . ابنائه نور الدائم و حبيب كانوا من زملائي في المدرسة الاولية .

و من اشهر رجال البوليس في امدرمان كان العم الامباشا عبد الله بون , و طبقت شهرته الآفاق . كان نشطاً كثير الحركة يتواجد في كل امدرمان . و يؤدي عمله بأنضباط كامل و نشاط . و النوبة كانوا على رأس من سهروا على حماية الحدود و البلاد . و ليست هنالك مدينة في السودان لم تكن تغص بأولاد النوبة كجنود أو كرجال بوليس .

الوالد عبد الله أحمد كان له متجر في سوق الموردة . و عرف بعبد الله  مخزنجي , لأنه عمل كمخزنجي أغلب حياته و أمتاز بالأمانة و الانضباط و حسن المعشر . و هو من النوبة ميري . و من كادقلي بالذات . و كان العم حسيب متزوجاً من اخته . و من ابنائه الضابط محمود حسيب رحمة الله عليه , و هو السبب في نجاح 25 مايو و هو عضو في مجلس قيادة الثورة . و من أشقائه ابراهيم حسيب الذي كان يكبرني قليلاً , و ربيع و عباس الذان كانا معي في نفس الفصل في مدرسة بيت الامانة الأولية . عندما اصدرت العملة السودانية الجديدة في سنة 1957 احتاجت المالية لبعض المواطنين المشهورين بالامانة و حسن الخلق . و كان الوالد عبد الله أحمد على رأسهم .

و حتى في الستينات كان بعض التجار يقولون للوالد عبد الله : ( يا زول لو كنت خليتنا نعد الريالات ساكت , كان غنينا و كان نعد لي يومنا دا ) و يضحكون . الريالات و الاشلان كانت تأتي في أكياس ضخمة فأستنبط الوالد عبد الله أحمد نظام رص الريالات في صناديق معينة كانت في شكل رفوف لحفظ الأوراق . فكان يرص الريالات على ارتفاع حافة الصندوق و يضرب الارتفاع في العرض و في الطول و يتحصل على الرقم الصحيح , و عممت الطريقة , و انتهت العملية في وقت قياسي . الوالد عبد الله أحمد كان يقول مدافعاً عن موقفه : ( لكن يا جماعة ما تفكروا في مصلحة البلد ) .

الوالد عبد الله أحمد هو والد تؤام الروح أحمد عبد الله أحمد , بله أو جاك ,  رحمة الله عليه . لقد كان اقرب انسان الى في الوجود بعد والدتي . لقد كان اقرب الى من اشقائي . و كنت على استعداد على ان افديه بحياتي في أي وقت .. فلم أعرف أي شخص أروع منه . منزل الوالد عبد الله أحمد كان مفتوحاً و كان يمتلئ بالضيوف . و أذكر ان أهل البادية و ما عرف بالعرب كانوا يأتون لزيارته , و النزول في منزله ,عندما يأتون بمريض الى المستشفى أو لأي غرض . و حتى بعد أن ترك التجارة كان أهل البادية يعتبرون منزله ( منزلةً لهم ) . و بعد عيد الاضحى في سنة 1964 اتت مجموعة من أهل البادية الى ذلك المنزل كضيوف . و كانوا فخورين بأن ابنهم قد تعرض لعدة ضعنات بالسكين بواسطة همباتة . و أنه لم يفلت رسن البعير حتى بعد ان طعنوه و اضطروا لقطع الرسن من يده . و كان الاخ عزام و الذي هو بطل كرة الطاولة في نادي العباسية و الرجل المعقول يقول لهم : ( طيب ما كانوا يقطعوا الرسن من الأول و يخلصوا ) .  و كانوا يرددون : ( لكن ما كان حا يمسك الرسن تاني ) .

أذكر ان العم عبد الله احمد قد أولم لهم . و كان احدهم بالرغم من انه لم يكن متقدماً في السن لا يستطيع ان يمضغ الشواء لأن اسنانه كانت سيئة . و كان يقوم بمص اللحم فقط . و الوالد عبد الله لا يتضايق أو يتأفف و يعزم عليه .

قبل ما يزيد قليلا عن العشرة سنوات , قال لي تؤام الروح بله رحمة الله عليه في التلفون و هو حزين : ( أخوي حمد مات يا شوقي ) . و حمد ود الحداد كان احد الصبية الذين أتوا من الجزيرة من ود الحداد بحثاً عن الرزق في امدرمان . فأخذه بله للسكن معه . و صار أحد سكان المنزل و عاش الى أن توفاه الله في سنة  1999.  و حمد صار بناءاً و صار عضواً في الحزب الشيوعي السوداني . و ثقف نفسه و عاش في الصين لفترة و كان منزله في العباسية هو منزل العم عبد الله أحمد . و لقد ارتبط بذلك المنزل بفترة لا تقل عن 45 سنة . و ربما تأثرا بذلك المنزل فلقد تزوج من احد بنات النوبة بالعباسية . و هي  أبنة جارة اخي كمال ابراهيم بدري بالقرب من ميدان الربيع .

و في بعض الاحيان كنت اتساءل هل كان أهل حمد ( ود العرب ) يمكن أن يقبلوا سكن بله معهم لانه صديق حمد , أو ان يعتبروه أبنهم ؟ و لهذا أقول أن النوبة الذين قدموا أكثر من الاخرين للسودان كانوا و لا يزالوا مظلومين . كل الذين درسوا في الاحفاد في الخمسينات و الستينات يذكرون حبوبة زينب . فلقد كانت تدير بوفيه مدرسة الاحفاد . و كانت تساعدها ابنتها وهيبه رحمة الله عليهن .

أختي فاطمة ابراهيم بدري كانت تقول لأبنائها و بناتها الذين كانوا يدرسون في الأحفاد : ( ما تشتروا من حبوبة نعيمة ) و حبوبة نعيمة كانت رباطابية و كانت تبيع النبق و اللالوب و اشياء اخرى . ( و ما تشتروا من أي دكان أو اي زول ببيع حلاوة في الشارع . ما تشتروا الا من حبوبة زينب , دي مره نظيفة و أكلها نظيف ) . الوالده زينب هي زوجة الوالد عبد الله أحمد و هي والدة تؤام الروح بله . و هذا الكلام  أكده لي الدكتور الاخصائي ابن اختي المهدي ابراهيم مالك و الذي يعمل الآن في بريطانيا . و لقد كان النوبة من أكثر الناس حباً للنظافة . و يرتدون عادة الجميل من الثياب . و لهم مقدرة على تزيين انفسهم و ملبسهم و مسكنهم . و لقد قلت دائماً بأن اغلب ما تعلمت من حب للآخرين و أرتباطي بالاخلاق السودانية و العشائرية تعلمته في منزل الوالد عبد الله أحمد و منزل الوالد ناصر بلال والد رفيق الدرب عثمان ناصر بلال و العم ناصر بلال كان أب لما يقارب للسبعة عشر طفلاً من اروع البشر من زوجة واحدة و كان نجاراً في الموردة و كان يعلم أهل الموردة أصول الدين الاسلامي  و كان هو الشخص الوحيد الذي أقبل يديه و اترجل من الدراجة عندما اشاهده في الطريق و هكذا كان يعمل ابنائه و بناته . الرحمة للجميع   .

عندما أكمل بله دراسته في مدرسة الاحفاد , عندما لم يكن عنده الواسطة أو المعارف لكي يجد وظيفة مباشرة . و أذكر ان والده قال له : (انت ولدي الوحيد انحن ما فينا زول بيكون عاطل . تمشي تكوس اي شغل في اي مكتب حتى بالمجاني . انا ما عايز اشوفك قاعد زي الاولاد التانين من ضل لي ضل  ) . و وجد بله وظيفة متدرب في الاشغال بمرتب ستة جنيهات . و كان يصرف ستة جنيهات على التكس من شارع الاربعين الى المحطة الوسطى الخرطوم زائداً طراحة الى مصلحة الاشغال التي كانت خارج الخرطوم . و كان يحتاج الى مصاريف الفطور و الشاي و المرطبات له و لزواره , و كان يحتاج المال لملابسه التي كانت تغسل و تكوى و تجهز . و كان ببساطة يصرف ضعف المرتب الذي كان يتلقاه . و لأنه رجل رائع و يتمتع بأحترام و حب الجميع فلقد وظف في الاشغال . و عندما أتت شركات  المعونة الامريكية تبحث عن موظفين مؤهلين , كان تؤام الروح بله أول المرشحين الشباب . و بلغ مرتبه في الستينات مبلغاً خرافياً و هو يقارب التسعين جنيهاً في الشهر . و الطبيب كان يعين بخمسة و اربعين جنيهاً زائداً العلاوات . و تؤام الروح بله الذي لم يكن يدخن أو يشرب الخمر كان يصرف جل هذا المبلغ على الأصدقاء و الأهل . ثم صار من أول المغتربين .

في سنة 1970 حضر النميري الى براغ و كان معه المحامي احمد سليمان و المحامي جوزيف قرنق وأبو القاسم محمد ابراهيم و فاروق ابو عيسى و خالد حسن عباس و آخرين . و أذكر أن خالد حسن عباس قال لنا أن ثورة مايو أنجحها عساكر الصف على عكس الانقلابات الآخري , التي كانت سبب فشلها جنود الصف . و السبب في نجاح حركة مايو هو أن محمود حسيب قد ضمن لهم ولاء اولاد النوبة في الجيش بصفته نوباوياً من الميري . و الغريبة أن محمود كان قومياً عربياً و لقد شارك في أول انقلاب للقوميين العرب و هو انقلاب 1957 الذي قام به كبيده . فجمال عبد الناصر كان يريد نظاماً يسمح له ببناء السد العالي . و اشترك محمود حسيب في انقلاب 1959 و هو الوحيد الذي ارسل الى سجن كتم . و قال عبود العب دا خلوه بعيد مني . فعندما عرف عبود بأن كل عضو في المجلس الأعلى كان له ضابط في الانقلاب الفاشل لكي يعتقله . و عندما قالوا له : (جنابك انت كانوا خاتين ليك محمود حسيب ) قال : (و انا ما يختوا لي الا العبد ) .

كما أورد الاستاذ فيليب عباس غبوش رحمة الله عليه في برنامج اسماء في حياتنا , انه كان هنالك انقلاب آخر , انقلاب نظمه اولاد النوبة و جهزوا كل شئ حتى المارشات . الا ان محمود حسيب قد سلم الانقلاب للقوميين العرب . فكما كنت أقول أن الاخ محمود حسيب قد تعرض لعملية غسيل مخ , لأنه كان يحسب نفسه من القوميين العرب . و لقد كافأه النميري بأن قد طرده في ايام جنازة عبد الناصر . لأن علي صبري و شعراوي جمعة كانوا يكرهونه , لأنه تربطه صداقة قديمة بزكريا محي الدين اليميني . .

عندما رجع النميري الى السودان من مصر , أبعد محمود حسيب  و جعله حاكماً على كردفان . ثم ابعده من كردفان و اعطوه ادراة احدى الشركات المؤممة . و تصادف حضور أحد ابناء الجوامعة و الذي كان يعمل في الخارج و اسمه محمد أحمد . و أكتشف انه محظور من الخروج من السودان , لأنه دخل في مشادة مع محمود حسيب عندما كان محافظاً . فذهب الشاب الى محمود حسيب و قتله رمياً بالرصاص في مكتبه . و لم يجد الشاب القصاص و قيل لنا أن هنالك من زوده بمسدس و قال له : (امشي اقتل العب و ما حا تحصل ليك حاجة ). و البعض كانوا موتورين . لأن محمود حسيب كان مسئولاً من التعويضات . و قيل انه ساوم بعض نساء الاسر الكبيرة التي صودرت اموالها . و ذهب دم محمود هدراً لأن النوبة قد كرهوه لأنه باعهم لنميري . و زملائه لم يكن يقدرونه لانه حسب شرعهم نوباوي فقط .

أذكر و انا في السنة الثالثة الاولية أن الاستاذ العاقل نوري موسي نوري  شقيق بكري او التقر نظر في كراسة الاخ ربيع حسيب و سأله قائلاً: ( الكلام دا الكتبو ليك منو ) . فقال الاخ ربيع : ( كتبتوا انا ) . فقال الاستاذ : ( كذاب ) و قام بجلده . و لم يتزحزح الاخ ربيع الذي كان رقيق العود و تحمل الجلد بثبات . فكرر الاستاذ السؤال بعد ان جلس ربيع . فرد ربيع بثقة و هو قد تلقى العقاب و قال : ( و الله يا استاذ كتبتو انا و انا ممكن اكتب ليك الكلام دا تاني ) . فأقتنع الاستاذ نوري . و الاستاذ نوري لم يكن يتوقع من ربيع النوباوي أن يكون جيداً في اللغة العربية و أن يكون خطه جميلاً , لأنه نوباوي .  والأستاذ قد نسى ان ربيع قد ولد في امدرمان و في بانت . و ربما لأن عباس شقيقه كان قوياً في جسمه و لم يكن جيداً في درسه. ربيع قتل  عند هجوم ما عرف بالغزو الليبي وهو داخل عنبر النوم له الرحمة . .

عندما رجعت في الاجازة من تشسلوفاكيا الى امدرمان , كنت سائراً مع تؤام الروح بله رحمة الله عليه , شاهدت عباس في شارع الاربعين خلف منزل العم امام عبد الله والد مولانا عبد المجيد امام عبد الله قاضي المحكمة العليا . فشاهدت عباس حسيب فأندفعت نحوه للتحية و ناديته بأسمه , الا انه لم يعرفني و لم يعرف ابن خاله بله رحمة الله عليه . فقال لي بله : (يا شوقي عباس دخل الجيش و رجع من الحرب في الجنوب و فكت معاه ) . فتأسفت على شبابه . فالنوبه دفعوا ضريبة الوطن بدمائهم و حريتهم و صحتهم في كثير من الاحيان , و لم يجدوا الا الظلم .

البحارة كانوا هم قبائل شمال السودان ( النوبيون ) , الذين كانوا يذهبون الى الجنوب و يأتون بالرقيق و منهم أهلي الدناقلة لدرايتهم بالابحار . و هنالك النهاضة و هؤلاء من ينهضون في بداية الخريف و يتسلحون ببنادق المرمطون , و هي (ريمقنتون) الانجليزية . و ينتظرون النوبة عندما ينزلون من أعلى الجبال للزراعة . فيقتلون الرجال و يخطفون النساء و الاطفال . و أول من قام بعمل كبانيات هو خيري الذي كان تاجر بلح كما أورد مؤرخ السودان محمد عبد الرحيم في كتابه دفع الافتراء . و كان قد اسر بعض الشلك في الكوة لأن تمره سرق . فقام ببيع الشلك لتعويض الخسارة . و وجد انها تجارة رابحة . فجمع بعض أهله و اشترى البنادق و كون كبانية أو كمبني أو شركة . و أنتقل بنشاطه الى جبال النوبة في منتصف القرن التاسع عشر . و تزوج نمرة بنت السلطان , أعطاه النوبة ابناءهم لكي يعلمهم الجندية كما وعد . الا انه قام ببيع ابناء النوبة , و انتقم منه والد زوجته بأن قتله بدلدماية الحديد و اخذ ابنته و ذهب . الا ان تلك التجارة اللعينة صارت مقننة و صارت على مستوى الشركات . و تعرض النوبة للاسترقاق و الاستغلال .

حتى في نهاية التركية و بعد أن فرضت الدول الأوربية حظراً على تجارة الرقيق . لم تتوقف سياسة اصطياد النوبة . و كان الاخوان أحمد و عبد الله دفع الله من أكبر تجار الرقيق . و عبد الله قتله المهدي في قدير و أحمد ضرب عنقه بعد فتح الابيض . بالرغم من أن النوبة قد ساعدوا المهدي و أعطوه ملجأ في جبل بطن امك ألحصين , الا أن المهدية انقلبت عليهم و حاربتهم و استرق النوبة و تعرضوا للظلم بصورة اكبر .

ابنائي الاخيرين كانوا اربعة من الرجال و كنت اتمنى في تلك الفترة لو أنني رزقت بأبنه لكي اطلق عليها اسم مندي و هي البطلة النوباوية التي حاربت الانجليز و كانت تجيد القتال و اطلاق النار . و حاربت بشجاعة الى أن مات ابنها الرضيع و هو مربوط على ظهرها .  و هنالك مارش في الجيش السوداني يعرف بمارش مندي , و هي ابنة السلطان عجبنا .

أهل والدتي ارتبطوا بجبال النوبة و كانوا تجاراً . و جبال النوبة هي مسقط رأس والدتي امينة خليل ابتر و أشقائها واهانا . كان جدي خليل ابتر سرتجار تلودي . و كان اخوته عبد الرحمن عبد الوهاب و آخرين تجاراً في جبال النوبة . و كان أبن اخته صلاح محمد احمد صلاح من أكبر تجار لقاوه . و كان محمد عبد الرحمن ابتر سرتجار كادقلي . و كان متعهدا بتوريد المواد الغذائية للبوليس و السجون و مدرسة كجة بأطراف كادقلي بالقرب من الكنيسة والشفخانة . كان العضو البرلماني الذي يمثل كادقلي . و هو والد الباقر ابتر و هو أبن خالة الاستاذه نور تاور رئيسة الحزب الليبرالي . و كان له منزل ضخم في فريق السوق في وسط كادقلي . و كان لي عشرات الخيلان من عاشوا في بلاد النوبة و ارتبطوا بها . و كان خالي و الذي اشرف على تربيتي و كنت اسكن عنده اسماعيل خليل اطال الله عمره مدرساً في جبال النوبة في بداية حياته ثم صار تاجراً . و لقد قابلت سائق لوري من جبال النوبة كان يعمل مع العم مكي في بانتيو و عرفت انه قد كان طالباً , و ان خالي اسماعيل كان مدرسه في تلودي . و لقد تزوج بعض خيلاني من بعض نساء النوبة و لهم بعض الابناء والبناتالرائعون نفتخر بهم .

لقد اكرمنا النوبة الذين لم يجدوا الا الظلم . في سنة 1982 كنت امارض العم شعيب في يوغسلافيا الذي اتى للعلاج وتغييرعظم المخروفة ,  وهو عديل العم عبد الله خليل رئيس الوزراء السابق  . كان تاجرا في لقاوه و زميلا لخالي محمد صلاح .  و كان يقول لي : ( و الله يا شوقي نحن ظلمنا النوبة ظلم شديد . كان في نظام الشيل . انحن التجار كنا بنشيل النوباي دين تقيل و بعد الحصاد بنجي و بنجيب شوالتنا. بعد تعب النوباوي و تعب اهله و اولاده كنا بنشيل كل العيش و السمسم و الله النوباوي ما يفضل ليه أي حاجة غير حق اكل اولاده . لكن النظام كان كدا . و كل التجار بعملوا كدا . و الله يا شوقي النوبه ديل مظلومين) . و كنت اسأله اذا كان النوبة يحتجون عندما يؤخذ حقهم . و كان يقول لي : ( النوباوي لما يدي كلمة بيلتزم ) .

نحن مدانون لجبال النوبة و للنوبة . فلقد تزوج والدي امي في جبال النوبة  ،و نحن نحس بالانتماء للنوبة لأنهم استقبلوا أهلي بحفاء و كرم . و جبال النوبة هي المنطقة الوحيده التي لا يمكن ان يدعي اي انسان غير نوباوي انها وطنه الاصلي . و الآن يتعرض شعب جبال النوبة للظلم من جديد و كما أوردت قديماً فأنه حتى بعض رجال الحركة الشعبية كان يظلم ابناء جبال النوبة و يحاول ان يضعهم في خانة الخدام الذي يغسل و يكوي فقط . ما أروع شعب النوبة الذين اعطوا اكثر من الآخرين . لقد ارتبطت بجبال النوبة امي الدنقلاوية التي هي احب انسان . و كنت عادةً اقسم بحياتها و الآن اقسم برحمتها . و النوبة هم أهل تؤام الروح بله رحمة الله عليه , الذي كنت اقسم بحياته كذلك و كان من يعرفني ويطلب امرا يستحلفني قائلاً عليك بله و كان يندر ان ارد من يستحلفني ببله .

كل هذه المشاكل و الحروب لم تكن لتحدث لو أننا اقتنعنا بأن الجميع اخوة , و اننا سودانيون سودانيون و لسنا شيئاً اخر . فقط نحن سودانيون .

و سأعود لبله .

التحية ع س شوقي بدري

توأم الروح بله وشوقي

 شوقي  وصورة الابن جاك او بله

شوقي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى