آراء

جنوب السُّودان.. ماضيه وصيرورته (12 من 21)

الدكتور عمر مصطفى شركيان
shurkiano@yahoo.co.uk

ليس هناك ثمة سبيلاً إلى الشك في أنَّ اتفاقيَّة أديس أبابا قد حقَّق كثراً من الأشياء لصالح الجنوبيين والشماليين على حدٍّ سواء. أفلم يكف أنَّ الاتفاقيَّة أوقفت نزيف الدماء التي ظلت تسيل قبيل الاستقلال في السُّودان العام 1955م حتى العام 1972م! أما فيما يخص زعم الحزب الشيوعي بأنَّ الاتفاقيَّة سوف لا تحقق أيَّة تنمية، فكان ذلك الزعم رجماً بالغيب، ولم ينتظر الحزب فترة زمانيَّة معلومة حتى يتمُّ تقييمها وتقويمها، لكن استباق فشل الاتفاق لم يكن إلا معارضة من أجل المعارضة، ومحاولة من الحزب الشيوعي تصفية حسابات مع نظام مايو، الذي كان شريكهم في أول العهد بالانقلاب المايوي، وقبل أن ينتهي شهر العسل بينهما بسيل من الدماء.
ففي أمر التنمية المفترى عليها، فقد نجحت الاتفاقيَّة في إعادة التوطين والإغاثة، وإعادة التعمير، وتأهيل العائدين، واختيار وتدريب القوَّات المستوعبة، وإنشاء حكومة الإقليم الجنوبي في جوبا وسلطة تشريعيَّة تمارس صلاحياتها بديمقراطية في برلمانها، وتصدر القوانين للحفاظ على النظام العام، والأمن الداخلي، والإدارة الحسنة المقتدرة المسايرة للعادات والتقاليد، وترقية اللغات والثقافات المحليَّة. كما تمَّ تعبيد الطرق، وإصلاح النقل النهري، وتجهيز المطارات الرئيسة، وتوفير الخدمات الصحيَّة، والتعليميَّة، وإنشاء جامعة جوبا كإحدى الصروح التعليميَّة الكبرى في السُّودان، وتوفير إمدادات المياه الريفيَّة النظيفة، والتوسُّع الزراعي، وخدمات التعمير، وتدريب القوى العاملة في سائر مجالات الخدمة المدنيَّة الإقليميَّة وغيرها.
وما العيب في تسليم السلطات للجنوبيين ليحلوا محل الإداريين الشماليين؟ أولم يمثل هذا المنحى أساس الحكم الذاتي، حتى يستطيع الجنوبيُّون حكم أنفسهم بأنفسهم! لخَّص قانون الحكم الذاتي للمديريات الجنوبيَّة الاتفاق حول مواضيع الثقافة واللغة في العبارات التالية: “اللغة العربيَّة هي اللغة الرسميَّة في السُّودان، واللغة الإنجليزيَّة هي اللغة الرئيسيَّة في الإقليم الجنوبي، دون المساس باستخدام أيَّة لغة، أو لغات أخرى، كضرورة عمليَّة للإنجاز السريع للمهام التنفيذيَّة والإداريَّة للإقليم.” في هذا النص إقرار صريح أيَّما صراحة باستخدام اللغات القوميَّة في الجنوب، وتطويرها والتعبير بها عن الإرث الثقافي والاجتماعي لمجتمعات الجنوب. فمتى كان في الجنوب في ذلك الحين من الزمان ما يُسمِّى بالرأسماليَّة، فالإنسان الجنوبي لم يكن له شأن أو هوى بالتجارة، بل إنَّ الجنوب مجتمع رعوي كثيراً ما يجد المواطن الجنوبي السعادة أيَّما سعادة حين يسير خلف أبقاره، ويتسمَّى بأسماء ثيران قطعانه من الماشية.
أما البقيَّة الباقية مما جاء في انتقادات الحزب الشيوعي السُّوداني لاتفاقيَّة أديس أبابا فهي عبارة عن غرس مصطلحات شيوعيَّة ماركسيَّة في ذاك التقييم، التي تجافي الواقع الجنوبي في كل شيء. على أيَّة حال، من الواضح أنَّ نقل المفاهيم من حقل معرفي إلى آخر هذا النقل الميكانيكي دون تبيئتها عمل غير مشروع من الناحية الإيبستيمولوجيَّة/المعرفيَّة، لأنَّ ذلك يؤدِّي إلى تطويع الموضوع لصالح المفهوم، وبالتالي تشويه الواقع والاعتداء على الحقيقة العلميَّة تماماً. هذا ما فعله الحزب الشيوعي السُّوداني عندما نقل المصطلحات الماركسيَّة وفرضها على المجتمع الجنوبي، وتلك المفاهيم قد وُضعت لتعبِّر عن واقع معيَّن ليس هو الواقع السُّوداني-الجنوبي كما هو في تركيبه وصيرورته. إذاً، جاء اعتراض الحزب على الاتفاقيَّة من فراغ، أي من دون أن يكون اعتراضهم مرتبطاً بمرجعيَّة معيَّنة، فقط بسياق ماركسي معيَّن، بل ومن دون أن يعوا تمام الوعي الطبيعة الإيبستيمولوجيَّة (فلسفة العلوم) لهذا الاعتراض.
كان يرى الشيوعيُّون من أهل الجنوب أمثال المرحوم جوزيف قرنق أنَّ حل “مشكلة جنوب السُّودان” يكمن في قيام تنظيم ديمقراطي في الجنوب ليلتئم مع الآخر في الشمال، ومن ثمَّ قيادة ثورة ديمقراطيَّة للتغيير، وحل قضيَّة الجنوب. السؤال الذي بدا يطرح نفسه آنئذٍ هو متى ينتظر الضحايا في الجنوب قيام هذا التنظيم الديمقراطي المنشود ونيران الحرب الأهليَّة تحصدهم، والنزوح الداخلي يهدِّدهم، والهجرة تدفعهم إلى دول الجوار، والمرض يقتلعهم ويسقطون تساقط أوراق الخريف. الحزب الشيوعي السُّوداني والضباط القوميين في السلطة المايويَّة كانوا على اتفاق في أنَّ الحرب الأهليَّة في جنوب السُّودان ينبغي أن تنتهي بالوسائل السلميَّة، لكنهم كانوا يختلفون في قضيَّة الإصلاح في الجنوب. كان برنامج الحزب الشيوعي يدعو إلى التنمية، وليس الديمقراطيَّة. ففي وجهة نظر الحزب أنَّ الجنوب يحتاج إلى فرص تفاضليَّة في الولوج إلى مصادر الموارد (Preferential access to resources)، حتى يتطوَّر، لكن في المقابل ينبغي عليه أن ينصاع إلى البرنامج القومي، بحيث يتم تطبيقه بواسطة القيادة القوميَّة. ذاك هو الشرط الذي ينبغي أن يدفعه أهل الجنوب ثمناً من أجل التنمية. وحين رفضت قيادة التمرُّد في الجنوب هذه المعادلة (الشيء بالشيء)، رأى الحزب أنَّ الخيار هو المواصلة في القهر المسلَّح. وما أن خرج الحزب الشيوعي من السلطة، حتى التفَّ تحالف الضباط القوميين مع الآخرين غير الشيوعيين حول نميري، وشرعوا في استكشاف حُزمة أخرى من الإصلاحات السياسيَّة بما فيه الأقلمة، أي الحكم الإقليمي. وكانت موافقة نميري على مبدأ الحكم الذاتي هي التي أفسحت الطريق نحو اتفاقيَّة أديس أبابا العام 1972م، وأنهت الصراع المسلَّح في جنوب السودان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى