آراء

حكومة الصَّادق المهدي (1986-1989م).. الديمقراطيَّة الشوهاء والممارسة البلهاء(7 من 9)

الدكتور عمر مصطفى شركيان

shurkiano@yahoo.co.uk

في إغارة خاطفة في الفترة ما بين 17-24 نيسان (أبريل) 1987م دخلت القوَّات التشاديَّة دارفور، وهاجمت القوَّات الليبيَّة والفيلق الإسلامي، ودمَّرت قدراتها الهجوميَّة.  وفي العام 1988م قدَّر صحافي له شيء من الإلمام ليس بقليل بشؤون دارفور بأنَّ تعداد الوفيَّات من جرَّاء الحرب في الإقليم خلال العام السابق بلغ 3.000 قتيلاً.  إذ مدَّد الليبيُّون مدرَّج هبوط وإقلاع الطائرات في قاعدتهم العسكريَّة في ساق النعام، التي تبعد حوالي 15 كيلومتراً عن الفاشر، وأخذت طائراتهم تهبط بمعدَّل مرتين في الأسبوع مجلبة المؤن والإمدادات العسكريَّة من طرابلس أو الكفرة، ثمَّ كانوا يغدقون على حلفائهم من قبيل سلامات بالأسلحة، وبأوامر لإرهاب ما أسموهم الزرقة، حتى يذعنوا بالطاعة إلى الاحتلال الليبي.  وفي مستهل آذار (مارس) 1988م حاول أبناء الفور إيقاف قوَّات المجلس الديمقراطي الثوري، المدعومة بالقبائل العربيَّة، من إنشاء معسكر للتدريب العسكري في شمال جبل مرَّة.  إذ تمَّ حرق تسع قرى، ومقتل 80 شخصاً.  الجدير بالذكر أنَّ المجلس الديمقراطي الثوري هو حركة تمرُّد تشاديَّة تأسَّست العام 1979م بعد نزاع مع حركة فرولينات الأصليَّة، وشرعت تجنِّد من القبائل العربيَّة.  هذا الوضع الأمني المنهار نحو الهاوية دفع جبهة نهضة دارفور إلى تنظيم تظاهرة كبرى في الخرطوم بلغ تعداد المشاركين فيها 40,000 شخصاً ضد الوجود الليبي في دارفور.

أثناء تلك الأوضاع الملتهبة زار وزير الدفاع الفريق عبد الماجد حامد خليل مدينة نيالا، حيث جوبه بجماهير غاضبة أخذت تقذفه بالحجارة.  إزاء ذلك الوضع أمر الفريق خليل الشرطة بإطلاق النار على المواطنين المتظاهرين، الشيء الذي لم تفعله الشرطة نسبة لعدم وجود الذخيرة في أسلحتهم.  على التو عاد الفريق خليل غاضباً إلى الخرطوم، وأقال رئيس هيئة الأركان الفريق فوزي أحمد الفاضل المحسوب على حزب الأمَّة، واستبدله بضابط رفيع آخر هو اللواء فتحي أحمد علي.  على الفور شرع الوزير الفريق خليل ورئيس هيئة الأركان الجديد اللواء علي في تأسيس “قوَّة دارفور الخاصة” لاستعادة النظام والقانون في غرب دارفور.  على التو حاول القذافي الضغط على الصَّادق المهدي لإقالة وزير الدفاع ورئيس هيئة أركان الجيش الجديد اللذين كانا يحذوان بدعم من المصريين.  بطبيعته الملتوية المعهودة منه لم يدعم الصَّادق مبادرة “قوَّة دارفور الخاصة”، ثمَّ لم يقم بفصل الضابطين القائمين على أمر المبادرة.

من أجل الدفاع عن مواطنيها، قام شباب ونشطاء جبهة نهضة دارفور بالسعي الحثيث لابتكار سبلاً للتكافل المالي وسط أبنائهم في داخل السُّودان، ودول المهجر والخليج بغرض الحصول على السِّلاح لحماية أهليهم وممتلكاتهم وأراضيهم.  إذ لم يكن هذا الأمر سهلاً، حيث لم يثق بهم الرئيس التشادي حسين هبري، وهو كان المصدر الوحيد الأكثر احتمالاً في سبيل ذلك.  برغم من ذلك كله أخذ الفور يجهِّزون أنفسهم، حيث وصلت قوَّتهم إلى 12.000 مقاتلاً، وقد سعى أحمد إبراهيم دريج السعي الحثيث دونما كلل أو ملل من مقر إقامته في لندن في سبيل الحصول على السِّلاح لهم من تشاد لحماية أهليهم والدفاع عنهم بالمهج والأرواح، حيث كانوا في ألمٍ ممضٍ ويأسٍ قاهر، مما صاروا إليه، وما صارت إليه أوضاعهم السياسيَّة والأمنيَّة والاجتماعيَّة في دارفور.

وبما أن المصائب لا تأتي فرادى، بل في شكل كتائب كما قال الشاعر المسرحي الإنجليزي ويليام شكسبير (1564-1616م)، حدث فيضان النيل في الخرطوم، وانقطعت سبل التواصل مع دارفور بعد تعطيل جهود النقل، وتدمير مخازن الغلال، مما تسبَّب في النقص الحاد للمواد الغذائيَّة في دارفور.  ذلك الفيضان كان للصَّادق في أمره شأن آخر، وسوف نأتي إلى تبيينه بعد حين.

مهما يكن من شأن، فمن هنا بدأت حكومة الصَّادق تشكو لطوب الأرض من الأعباء الاقتصاديَّة الكبيرة التي تكاثرت وتزايدت بسبب آثار الجفاف والتصحُّر والمجاعة، وباتت يائسة باحثة عن مخرج مالي لحل الضائقة العسكريَّة التي تواجهه في الجنوب طالما اختار الحرب سبيلاً لحل القضيَّة السياسيَّة، والوضع الأمني-السياسي في دارفور الذي ورَّط فيه نفسه.  إذ أمسى الصَّادق في دوامة لا قرار ولا نهاية لها، ومع ذلك بات المصدر الوحيد الذي كان الصَّادق يأمل أن يأتي منه العون المالي هو ليبيا، غير أنَّ ليبيا ظلَّت تصر على جائزته المعهودة، أي دارفور.  فكَّر الصَّادق وقرَّر بأن يرسل وفداً حكوميَّاً رفيعاً إلى طرابلس في 23 تشرين الأول (أكتوبر) 1988م، وحين لم يأت الوفد بنتيجة إيجابيَّة سافر هو بنفسه إلى طرابلس في 13 تشرين الثاني (نوفمبر)، أي في أقل من شهر من زيارة الوفد رفيع المستوى.  في ذلك الرَّدح من الزمان أدرك أي سوداني أنَّ دارفور في حال حرب شعواء لا هوادة فيها، ومن ثمَّ أخذت إحصاءات الضحايا تظهر وتختلف؛ فقد صرَّح حاكم الإقليم المنتمي إلى حزب الأمَّة الدكتور التجاني سيسي أنَّ جملة الوفيَّات بلغت 500 شخصاً، وذكر أهالي الفور أنَّ ضحاياهم وصل تعدادهم إلى 30.000 شخصاً، وفي رأي المراقبين السياسيين الآخرين أنَّ حصيلة الضحايا بلغت 9.000 شخصاً في الفترة ما بين (1985-1988م).  لقد كتب الدكتور شريف حرير ورقة مستفيضة باللغة الإنجليزيَّة، شارحاً ومشرِّحاً تلك الأحداث المأسويَّة من الناحية الأمنيَّة والعسكريَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة والإثنيَّة، وفي مجال حقوق الإنسان، ثمَّ قام مركز الدراسات السُّودانيَّة بالقاهرة بترجمتها إلى العربيَّة ونشرها، مع مجموعة أوراق أخرى، في كتاب بعنوان “السُّودان.. الانهيار أو النَّهضة” العام 1997م.

للمقال بقيَّة،،،

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى