آراء

حديث الأربعاء مع يوسف كوَّة مكِّي (3 من 4)

الدكتور عمر مصطفى شركيان
shurkiano@yahoo.co.uk

أيُّها الجاموس المسجي، تعال إلينا مع تباشير الخريف
فالغابة والنَّهر وعجول القبيلة كلهم جميعاً بانتظارك في موسم البذر
نداءات الفرح معطَّلة ومهجورة حتى تعود
يخيف خوارك الثيران المخنَّثة وأبقار الزِّينة
وغداً يذهب الغرباء
ويبقى نسيم الوادي يُغسل أحزان القبيلة

نشيد القبيلة المقدَّس الذي ردَّده مقاتلو أقار بعد مصرع زعيمهم مايين ماثيانق في 21 تموز (يوليو) 1902م في منطقة رمبيك

عوداً إلى الترتيبات الفيديراليَّة قد يتساءل سائل لِمَ اقترحت الحركة الشعبيَّة هذا الاقتراح؟ فيجيب يوسف: حين اقترحنا هذا كان لنا قناعة كبيرة بأنَّه إن وُجِدت حكومة ذات دستور علماني وهي قادرة على تقديم تنمية متوازية لأقاليمها المختلفة، فستكون مثالاً يحُتذى. وقد ضرب لنا الدكتور قرنق مثلاً بالبيرة (الخمرة) إذ قال سوف لا تمنع شريعتنا البيرة، وسوف يأتي إلينا أهل الشمال ليحتسوا كؤوساً من البيرة مرة ومرتين وثلاث مرات، وحينما تكثر الزيارات سوف يفكِّرون ويقدِّرون، ويقول قائلهم لقد لقينا من أسفارنا هذه نُصُباً، فلِمَ لا نقلب حكومتنا في الشمال ونقوم بصناعة بيرتنا (خمرتنا) محليَّاً، ونقي أنفسنا وأهالينا عناء السفر وغوائل الدَّهر ومشقة الطريق؟ وكذلك إن وُجِدت تنمية متوازية في مناطق الحركة الشعبيَّة فسوف تعطي مثالاً جيِّداً لبعض مناطق الحكومة التي ترزح تحت نيران التخلُّف والتهميش، وسوف يأخذوا الحكمة من آيات حكمنا الرشيد. وهذا تأثير البيان بالعمل (Demonstration effect) الذي كانت تنويه الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان. كان هذا هو هدفنا في النتيجة التي توصَّلنا إليها في أبوجا الثانيَّة لا أقلَّ ولا أكثر. وهذا ما تمَّ الاتفاق عليه مع وفد الحكومة السُّودانيَّة، ونُبِّئنا بأنَّهم سوف يرسلوا نتائج الاتفاق إلى الخرطوم. فقلنا لهم سوف ننتظر، إنَّا معكم من المنتظرين، ومضى يوم ويومين دون أن نسمع منهم خبراً. وإنَّا لفي انتظار رد الخرطوم، وإذا الدكتور جون قرنق يصل إلى أبوجا قادماً من الولايات المتحدة الأمريكيَّة وبريطانيا. وفي صباح اليوم التالي لوصوله ذهب وفد الحركة الشعبيَّة ليلتقي به وليرفع له تقريراً عن سير المحادثات مع نظام الخرطوم؛ وما أن وقف الدِّكتور على هذا التقرير حتى بارك هذه النتائج. وفور وصولنا إلى مقر المحادثات سمعنا إعلام الحكومة السُّودانيَّة يقول إنَّ الدكتور قرنق قد حضر إلى أبوجا وأمر أعضاء وفد الحركة الشعبيَّة بفض المفاوضات ومغادرة أبوجا؛ هذا كذب بواح، ومن هنا انتهى كل ما توصَّلنا إليه من نتائج، وهدم النظام “الإنقاذي” هذا الصرح بيده.
كل ما في الأمر أنَّ سلوك أهل النظام “الإنقاذي” هذا كان ناتجاً عن تفسيرهم السياسي لنتائج الاتفاق السياسي، فإنَّ أكبر الظَّن أنَّهم رأوا أنَّ الحركة الشَّعبيَّة قد وافقت على هذا الاتفاق من منطلق الوهن، لذلك حسب النظام “الخرطومي” بأنَّ الحركة طالما أمست ضعيفة فقد آن الأوان لهزيمتها عسكريَّاً، وآية ذلك أنَّه في شهر حزيران (يونيو) 1993م قامت قوَّات الحكومة بمهاجمة مواقع الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان على طريق جوبا-نمولي في موسم الخريف ولأول مرة في تأريخ الحرب الأهليَّة منذ العام 1983م؛ فقد صوَّر لهم وزيَّن لهم إعلامهم أنَّ الحركة الشَّعبيَّة قد انتهت أو أوشكت أن تنتهي، وما هي إلا فلولاً من قطاع الطُّرق على الشريط الحدودي بين السُّودان ويوغندا. ومن أكاذيب أهل النظام تصوير المعارك التي كانت تدور رحاها بين جيش الحكومة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان. فكنا نرى فخر جند الحكومة وتمدُّحهم واستعلاءهم على الجَّيش الشَّعبي، فنبتسم في أنفسنا ساخرين منهم عاطفين عليهم. ففي مرات عدة لم يصنعوا شيئاً إلا أنَّهم لاذوا بشِعاف الجبال (أي رؤوسها) يتسابقون مع وحوش الأدغال، ويفرُّون إلى حيث أتوا يطلبون الأمان ويرجون من الله سلاماً، ويخلوا بين المعارك وأهداف القتال. وهم على ذلك يفاخرون ويكاثرون، وهم على ذلك يستكبرون ويهلِّلون، ويستعلون ويتظاهرون. وكذلك الإنسان يغره بنفسه الغرور، فيضيف إليها ما لم تفعل، ويحمل عليها ما لم تأت من الأمر؛ أولئك الذين يريدون أن يكيدوا فلا يحسنون الكيد، وأن يكذِّبوا فلا يحسنون تخيُّر الأكاذيب.
أيَّاً كان من أمر الادِّعاء، فقد ذهبت الحكومة السُّودانيَّة تبحث عن الحل السلمي، وفي هذه المرة طرقت أبواب منظَّمة “الإيقاد”، وهي منظَّمة إقليميَّة تشمل كلاً من: السُّودان، وأوغندا، وكينيا، والصومال، وأثيوبيا، وأريتريا، وجيبوتي، وذلك لإيجاد مبادرة سلميَّة لحل المشكل السُّوداني في الإطار الإقليمي؛ هذه هي فكرة “الإيقاد”، وقد كان ما كان. ويضيف يوسف: أولاً، نحن نعتقد أنَّ “إعلان المبادئ”، الذي جاءت به منظَّمة “الإيقاد”، هو أفضل مبادرة سياسيَّة حتَّى الآن لأنَّها تخاطب عمق المشكل السُّوداني (The core of the Sudanese problem)، أي لكي تكون هناك وحدة وطنيَّة صادقة في السُّودان ينبغي فصل الدِّين عن الدولة، والاعتراف بالقوميات والثقافات والديانات السُّودانيَّة المتعدِّدة، بحيث أنَّه إن تمَّت معالجة هذه الأشياء سوف لا يكون هناك مشكل سياسي في السُّودان، إذ أنَّ من الأهداف التي إليها تدعو الحركة الشعبيَّة، وما فتئت تنادي بها، هي الوحدة الوطنيَّة، والمساواة والعدالة، وتكافؤ الفرص؛ لأنَّنا ما زلنا نعتقد أنَّنا في وطننا مواطنين من الدرجة الثانية، نعم يمكن أن تكون نائب ثاني – لا نائب أول – وإذا مات النائب الأول يأتوا بأحد من الخلف وتتم ترقيته إلى هذا المنصب.
علي أيَّة حال، فهذا هو وطني بالجغرافيا والتأريخ، وهذه الجبال معالم جغرافيَّة وتأريخيَّة ثابتة – وإنَّما هي حقيقة واقعة خلقها الله الذي يخلق الحقائق كلَّها – وليس لي وطناً عنه أبغي بديلاً، حتى ربنا العليم يعلم ذلك؛ فلِمَ، إذاً، أقبل بنفسي أن أعيش فيه مضطهداً بهذه الكيفيَّة، وفيه ألاقي ما ألاقي، وعنده أعاني ما أعاني. كل ما نطالب به في إطار هذا البلد الواحد هو وجوب احترام الإنسان لرأي الغير، ومعتقدات الغير، وعادات وتقاليد الغير، إلى غير ذلك، كما أنَّ الحوار البناء يساهم في التقدُّم، وإنَّ في تحجيبه لنتائج مأسويَّة، وهذا ما شهدناه وشاهدناه. مهما يكن من شيء، فقد أعطت مبادرة “الإيقاد” السُّودانيين خيار الوحدة الوطنيَّة إذا توفَّرت بعض الشروط، وفي حال تمسُّك الحكومة ب”ثوابتها”، يلجأ السُّودانيُّون إلى الخيار الثاني ألا وهو “حق تقرير المصير”. وهنا انبرى عدد من السُّودانيين، وأخذوا يتساءلون كيف انقلب الدكتور قرنق من الدعوة إلى وحدة السُّودان إلى المطالبة ب”حق تقرير المصير”؟ إنَّ هذه هي من الأجندة السريَّة التي كان يخفيها قرنق في بداية الأمر، هكذا بدأ القوم يتكلَّمون. وهنا أحب أن أردِّد ما قاله الدكتور قرنق – والحديث ليوسف كوَّة – وهو أنَّ “حق تقرير المصير” هذا يمكن أن يقود إلى سبيلين: الوحدة أو الانفصال، لأنَّ الوحدة مثل الزواج بين الرجل والمرأة، فإذا لم تتوفَّر شروط الزواج وهي الحب المتبادل لا يمكن أن يسود هذا الزواج، لأنَّه ليس هناك قِران بالقوَّة. وهذه هي الفرصة الأخيرة، والغريب المدهش في الأمر أنَّ الذين قالوا للنَّاس من أبناء الجنوب إنَّهم مع انفصال الجنوب احتضنتهم الحكومة، وحملتهم على الأكتاف، ولطَّفتهم تلطيفاً، ومنحتهم المراكز والمناصب. فهناك من النَّاس من هم من ضعاف النفوس؛ النفوس التي ترغب في كثير، لكنها تقنع بالقليل الذي رُدَّ إليها، بل بأقلَّ من هذا القليل. ولله در الشَّاعر أبو ذؤيب خويلد بن خالد الهذلي حين أنشد في مثل هذه الأحوال الرثائيَّة، التي فيها تتوجَّع النَّاس من المنون وريبها:
والنَّفسُ راغبةٌ إذا رغَّبتَها وإذا تُرَدُّ إلى قَليلٍ تَقنَعُ

أليس هذه هي الحكومة التي “تجاهد” من أجل وحدة السُّودان! نعم إنَّا لنؤمن بأنَّها تحارب من أجل وحدة السُّودان، لكن أيَّة وحدة وأي سودان! نجزم ولا تثريب على جزمنا إنَّهم “ليجاهدون” من أجل وحدة على طريقتهم التي ترتضيهم ويرضونها. تلكم الوحدة التي تسمح باستخدام فئة ضد أخرى، وتحطيم هذا وترك ذاك – أي سياسة “فرِّق تسد”، إذ لا يمكنهم إحضار المخلصين من أبناء الوطن الشرفاء. هكذا نجد أنَّ “الإيقاد” قد قدَّمت مبادرة صادقة لحل المشكل السُّوداني واصطدمت المبادرة مع هذه الحكومة العقائديَّة، التي تبغي حل المشكل السُّوداني بطريقتها. لذلك رفضت الحكومة السُّودانيَّة وثيقة “إعلان المبادئ”، التي جاءت بها مجموعة “الإيقاد”، وطفقت الحكومة تتَّهم جماعة “الإيقاد” بأنَّها تساعد الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان، برغم من أنَّها هي التي سعت سعياً حثيثاً إلى “الإيقاد” متوسِّلة إليها لإيجاد مخرج صدق للمشكل السُّوداني. ثمَّ جاءت القنبلة التي ألقاها الدكتور غازي صلاح الدِّين العتباني في إحدى جلسات “الإيقاد” حين أخبر وفودها أنَّ للخرطوم رسالة تبشيريَّة بالإسلام ليست في الجنوب فحسب، بل في أفريقيا كلها، فوجم أهل “الإيقاد” المسيحيُّون وكظموا الغيظ أجمعون أبتعون، وكانوا واجدين على أحدوثة الدكتور العتباني أشدَّ الموجدة، ولها مبغضين أشدَّ البغض، وعليها حانقين في أكثر ما يكون الحنق. فلم يطق أهل “الإيقاد” لهذا الأمر احتمالاً، ولم يستطيعوا عليه صبراً، وتفرَّق أهل “الإيقاد” من جلستهم هذه، وإنَّ في قلب كل واحد منهم لأثراً قويَّاً باقياً لهذا الحديث الجلل والتصريح المدوي، الذي يفتقر من شيء من قيم الكياسة والديبلوماسيَّة قليل.
هذا يوضِّح أنَّ الحكومة السُّودانيَّة لم تكن في عجلة من أمرها لحل المشكل السُّوداني، ومضى كل فريق إلى سبيله وتقطَّعت بهم السبل. فبعد ثلاث سنوات عادت الحكومة، وقالت إنَّها قبلت بمبادرة “الإيقاد” بما فيها “حق تقرير المصير”، وجاء هذا القبول بعد أن وافق التجمُّع الوطني الدِّيمقراطي على هذا الحق لأهل الجنوب في مؤتمر القضايا المصيريَّة في أسمرا – حاضرة أريتريا – في حزيران (يونيو) 1995م. إذ كانت الحكومة تتوعَّد وتنذر الشماليين في التجمُّع الوطني الديمقراطي بأنَّها قادرة على أخذ مقرَّرات أسمرا وتطبيقها مع الحركة الشعبيَّة، ويومئذٍ سوف نرى أي منقلبٍ تنقلبون. هذا ما فعلته الحكومة السُّودانيَّة لاحقاً؛ فقد أصرَّت الحكومة أن يكون “حق تقرير المصير” لجنوب السُّودان فقط دون جنوب كردفان (جبال النُّوبة) أو النيل الأزرق أو أبيي، فكان الهدف من كل هذا هو شق الحركة الشعبيَّة، والدكتور قرنق يعلم – وما زال الحديث ليوسف – أنَّه لو وافق على ذلك سوف تكون هناك مشكلات عديدة وحرب داخليَّة بين مكونات الحركة الشعبيَّة مع بعضها بعضاً، حتى تضعف وتنتهي، وفي نهاية الأمر لم يبق هناك وجود لأهل الجنوب أو النُّوبة أو الفونج أو غيرهم، وإذا كان هناك “حق تقرير المصير” ينبغي أن يكون لكل العناصر التي تقاتل مع أهل الجنوب وهم النُّوبة والفونج وأبيي.
ومن ثمَّ قام الوشاة بنشر إشاعات مفادها أن أهل الجنوب قد مُنِحوا “حق تقرير المصير” دون النُّوبة – وآفة الأخبار رواتها – وهنا ظهرت طائفة من أبناء الجنوب الذين ظنَّوا أنَّهم جنوبيين أكثر من الدكتور جون قرنق، ومشوا بين النَّاس قولاً وإشاعة بأنَّه لولا هؤلاء النُّوبة لكنا قد نلنا استقلال الجنوب، وهذا ما أخذت تروِّجه الحكومة السُّودانيَّة لأولئك الفئة من الجنوبيين تارة، وتنتقل الحكومة إلى بعض أبناء النُّوبة تارة أخرى، وتوسوس في صدورهم بأنَّهم حاربوا مع أهل الجنوب، ونال أهل الجنوب “حق تقرير المصير”، وأنتم خرجتم صفر اليدين. وهنا يقول يوسف كوَّة: أنا جنوبي أكثر من بعض الجنوبيين، وبخاصة الذين هم في لندن والخرطوم مقيمين، لأنَّ ليست هناك بلدة في جنوب السُّودان تمَّ تحريرها إلا وفيها سالت دماء النُّوبة، وكذلك هناك جنوبيين ماتوا في جبال النُّوبة ولهم في هذه الجبال حق معلوم أكثر من أي نوبوي في لندن أو الخرطوم. إذ نحن في الحركة الشعبيَّة ندرك الأشياء جيِّداً، وبخاصة السياسة الاستعماريَّة “فرِّق تسد”.
ثم يمضي يوسف كوَّة قائلاً: إنَّه لم يحضر محادثات “الإيقاد” في نيروبي، لأنَّه هو كان في جبال النُّوبة، وكذلك لم يحضر القائد مالك عقار لأنَّه كان هو الآخر في النيل الأزرق؛ لذلك حينما جاءت محادثات “الإيقاد” في أديس أبابا – حاضرة أثيوبيا – العام 1998م كنا من ضمن وفد الحركة الشعبيَّة، لأنَّ وفد الحكومة السُّودانيَّة في المحادثات السابقة ردَّد مراراً على وفد الحركة الشعبيَّة بأن لا يتحدَّث باسم النُّوبة وأهل جنوب النِّيل الأزرق. وحين حضرنا إلى أديس أبابا وجدنا شركاء “الإيقاد” يقولون إنَّ الحكومة السُّودانيَّة مستعدة لمنح أهل الجنوب “حق تقرير المصير”. فقلنا لهم: وما بال النُّوبة وأهالي جنوب النيل الأزرق! فكان ردَّهم سوف ننظر في أمرهم لاحقاً، فقلنا: كيف يعقل ذلك؟ وما هي المعايير – مع علمنا التام بأنَّ الحرب الأهليَّة هي الحرب في جميع مناطق النزاع المسلَّح في السُّودان – التي بها يتمُّ تفصيل “حق تقرير المصير” لأهل جنوب السُّودان دون غيرهم؟ فلم نجد منهم إلينا إجابة شافية.
أيَّاً كان من الأمر، فعندما بدأت الجلسة أخبر القائدان يوسف كوَّة ومالك عقار شركاء “الإيقاد” بأنَّهم هنا يمثِّلون وفد الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان، فإذا كانت هذه الجلسات تخص ما يُسمَّى ب”مشكلة جنوب السُّودان” فعليكم أن تخطرونا بذلك حتى ننسحب من المحادثات، فكان ردَّ شركاء “الإيقاد” بالنَّفي. وفي الحق، حينما استلمنا – نحن في الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان – إعلان المبادئ لمجموعة دول “الإيقاد” العام 1994م كانت لدينا تحفظات حول تعبير “حق تقرير المصير للجنوب”، وسجَّلنا هذا التحفظ ومضينا في قبول الإعلان، وكان هذا واحداً من الأخطاء الفادحة التي ما زلنا نجد الصُّعوبة في الخروج منها، فقد ارتدَّ إلينا خاسئاً حسيراً. فقد تعلَّمنا كثيراً وسوف لا تفوت علينا فرصة مثيلة في المستقبل. ولمَّا دخل وفد الحكومة كان أول بند في الأجندة هو فصل الدين عن الدولة؛ إذ قال قائلهم لا نقاش في هذا البند، ثمَّ انتقلنا إلى البند الثاني وهو “حق تقرير المصير للجنوب”؛ وجاء الحديث عن تعريف الجنوب، وقلنا لهم: نحن في الحركة الشعبيَّة نعتبر الجنوب لفظة جغرافيَّة؛ وعلى سبيل المثال إذا أخذنا هذه الحجرة يمكن تقسيمها إلى جنوب وشمال، وبالمثل الجنوب يمكن أن يصبح شمالاً والشمال يمسي جنوباً. وكان جدالنا هو إنَّ المهم في الأمر هو أنَّه هناك مشكل سياسي في السُّودان ونود حلَّه؛ وإذا أردت أن تمنح شيئاً لأحد دون الأغيار نريد أن نعلم المعايير التي بها تتم هذه المنحة، وإلا سوف لا يكون هناك حل.
صحيح في القاموس السياسي السُّوداني أنَّ الجنوب هو المديريات الثلاث القديمة (أعالي النيل، وبحر الغزال، والاستوائيَّة) بعد استقلال السُّودان العام 1956م، بيد أنَّ النُّوبة وأهل الأنقسنا وأبيي قد حاربوا سويَّاً مع أهل الجنوب لمدة 15 عاماً – حتى ذلك الرَّدح من الزمان، فإلى أين هم ذاهبون؟ ففي هذه الأثناء ذكر القائد مالك عقار للوسطاء أنَّه إذا كان الأمر كذلك فعلى وفد الحكومة السُّودانيَّة أن يعلن على الملاً أنَّ حكومة السُّودان سوف تسحب جميع قواتها من هذه المديريات الجنوبيَّة الثلاث، وبذلك تنتهي الحرب الأهليَّة في جنوب السُّودان، مع العلم بأنَّ هذه الحرب ستظل مستمرَّة في جبال النُّوبة والنيل الأزرق، وسوف يوفِّر لنا هذا الأمر مشقة الإمداد العسكري، أي سيكون قريباً بدلاً من شق الوديان إلى شُقدُوم، ولن نمعن في السفر حتى يسعى إلينا الملال، ويأخذ فينا الكلال. وهنا التفت شركاء “الإيقاد” إلى وفد الحكومة ولهم قائلين: ما خطبكم في هذا الأمر؟ فرد أعضاء الوفد بأنَّ ليس لهم من التفويض في هذا الأمر بشيء. وهنا نذكر – وما زال الحديث ليوسف – أنَّ القائد سلفا كيير قال: إنَّه كرئيس لهيئة أركان الجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان لسوف يعمل جاهداً لتوفير الإمداد الحربي للجيش الشَّعبي في جبال النُّوبة وجنوب النِّيل الأزرق لمواصلة النِّضال في هذه المناطق.
على أيَّة حال، فقد خرجت الحكومة السُّودانيَّة قائلة للنَّاس إنَّ الحركة الشعبيَّة وافقت على حدود جنوب السُّودان للعام 1956م. وبالمناسبة، لقد تمَّ تحديد حدود جنوب السُّودان رسميَّاً في اتفاقيَّة أديس أبابا العام 1972م، وليس العام 1956م كما بدأ الترويج لها. ففي خارطة الدوائر الجغرافيَّة لجنوب السُّودان (Parliamentary constituencies for Southern Sudan) في الانتخابات البرلمانيَّة في السُّودان العام 1957م، وجدنا جبال النُّوبة والنيل الأزرق يقعان ضمن مناطق الجنوب، وبهذه الخارطة انتظرنا وفد الحكومة في المحادثات القادمة، إلا أنَّ الجماعة إيَّاهم غابوا ولم يحضروا. مهما يكن من شأن، فلم يوقِّع وفدا الحكومة السُّودانيَّة والحركة الشعبيَّة على بيان مشترك؛ إذ كل ما تمَّ الاتفاق عليه بين الطرفين هو ضرورة تسهيل عمليَّة سريان المساعدات الإنسانيَّة والمواد الإغاثيَّة للمتضرِّرين من النِّزاع المسلَّح، ورُفِعت المفاوضات إلى شباط (فبراير) العام 1999م.

للمحاضرة خلاصة،،،

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى