جنوب السُّودان.. ماضيه وصيرورته (11 من 21)
الدكتور عمر مصطفى شركيان
shurkiano@yahoo.co.uk
لا ريب في أنَّ في التاريخ الديبلوماسي والعسكري سلسلة من الأخطاء يرتكبها رجال تائهون في دهاليز القصور، فهم قد لا يخلقون الأحداث بقدر ما يتخبطون خبط عشواء في الرَّد عليها، ولا يعرفون المستقبل إلا ما يحصل بين ليلة وضحاها. اندلاع الحروب يعتبر من أبرز الأمثلة على هذا التخبط في سوء الفهم وانعدام التخطيط السليم. ففي مذكِّرات بعض أقطاب السياسة مثل أتو فون بسمارك (1815-1898م) وهنري كيسنجر نجد نوعاً من التأييد لهذا القول؛ إذ أنَّهم يعترفون بأنَّ القرار السياسي، وخصوصاً في زمن الأزمات، كثيراً ما يتقلَّب على غير هدى في غمرة الأحداث ومجابهتها، فيتلاشى التخطيط وتسود الصدف على أنواعها والعوامل النفسيَّة المتضاربة. هذه السياسة الخلطاء تتماثل مع ما قاله قراوشو مارك في تعريفه للسياسة بأنَّها “فن البحث عن المشكل، والعثور عليه أينما كان، وإعمال التشخيص الخطأ، ثمَّ علاجه بطريقة خاطئة.”
باستثناء زعيم الحزب الجمهوري الاشتراكي أبراهيم بدري، ورئيس حركة الإخوان الجمهوريُّون الأستاذ محمود محمد طه اللذين كانا لهما أطروحات إيجابيَّة لحل قضيَّة جنوب السُّودان، كانت أغلب الأحزاب السياسيَّة في الشمال، وبخاصة الطائفيَّة (الأمَّة والاتحادي الديمقراطي) والعقائديَّة (حركة الإخوان المسلون)، تعتبر الجنوب ثغر الإسلام الجنوبي في إفريقيا، بل عمقه الإستراتيجي، وقد فعلت كل ما في وسعها، وفي معينها، لأسلمة أهل الجنوب بل وتعريبهم رغم أنوفهم. واستمرَّت خطوات هذا البرنامج عدَّة حقب حسوماً، وهنا تجدر الإشارة إلى كيف أفشلت تلك الأحزاب مقرَّرات مؤتمر المائدة المستديرة العام 1965م، وأجهضت توصيات لجنة الاثني عشر التي انبثقت عن المؤتمر، وذلك بإصرارهم على المسألة الدينيَّة في الدستور والسلطة المركزيَّة القابضة، إلا في بعض المهام الإداريَّة البسيطة. ففي أدبيات الحزب الشيوعي السُّوداني نجد أنَّ الحزب “يقف مع أن يكون للجنوب مجلسه النيابي، وحكومته الإقليميَّة، والأشكال الخاصة للحكم المحلي… وأن تكون الدولة المركزيَّة السودانيَّة مسيطرة على: السياسة الخارجيَّة والتمثيل الخارجي والتجارة الخارجيَّة، والعملة، والسياسة العامة الماليَّة والتخطيط، والتعليم العالي، والمواصلات الوطنيَّة، ووحدة القيادة المركزيَّة للجيش والبوليس والسجون.” إذاً، ماذا بقي للمجلس النيابي والحكومة التنفيذيَّة الإقليميَّة من السلطات لممارستها!
زعم الحزب الشيوعي السُّوداني أنَّ ثورة مايو “برغم من تبنِّيها اللفظي لشعار الحل السلمي الديمقراطي وبيان حزيران (يونيو) 1969م، إلا أنَّها أفرغته من محتواه الثوري كحل شامل يطول المجالات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة كافة، واختزلته إلى مساومات مفضوحة حول مغانم الحكم والمناصب.” ثمَّ من بعد قيَّمت اللجنة المركزيَّة للحزب الشيوعي السُّوداني اتفاقيَّة أديس أبابا في وثيقتها الصادرة بتاريخ 3 آذار (مارس) 1972م، وتوصَّلت إلى النتائج الآتية:
(1) الاتفاقيَّة لا تقدِّم أي حل جاد لمشكلة التخلُّف الاجتماعي والاقتصادي، الذي يمثِّل جذور القضيَّة، وإنَّما تكتفي بعبارات ظلَّت تعاد وتُكرَّر منذ الاستقلال.
(2) إنَّ الاتفاقيَّة تُصوِّر أنَّ الشيء الرئيس في الحكم الذاتي الإقليمي هو تسليم السلطات للجنوبيين، وذلك شيء جرَّبناه من قبل، وجرَّبته كل الدول الإفريقيَّة، ولن تكون له نتيجة غير إحلال جنوبيين في الإدارة محل الشماليين، وغير نشوء قلَّة متميِّزة ومتيسِّرة من الموظفين، بينما يظل ملايين الجنوبيين البسطاء الفقراء في فقرهم وتعاستهم وتخلُّفهم تماماً كما حدث في الشمال. ومعنى هذا أنَّ الحكم الذاتي الإقليمي وسيلة للإثراء ولظهور طبقة من الرأسماليين الجنوبيين على حساب المواطن الجنوبي العادي.
(3) إنَّ من أخطر جوانب الاتفاقيَّة هو ازدراؤها التام للديمقراطيَّة، ليس فقط بمدلولها ومعناها العام، وإنَّما بمعنى ضرورتها الحيويَّة لتطوُّر مجتمع مثل الذي في الجنوب، (الذي) لم تتبلور فيه بعد الاتجاهات الاجتماعيَّة والسياسيَّة، ووجه الخطر هو أنَّ مصادرة الديمقراطيَّة ستقف حجر عثرة أمام النشاط الحر للقبائل والشعوب المختلفة في الجنوب، وأمام تطوُّر وازدهار ثقافاتها، كما ستقف عقبة أمام المساواة التامة بينها. وهذا هو بالضبط المناخ الذي يمكن أن تفرخ فيه النزاعات والصراعات القبليَّة.
(4) إنَّ السَّلام بين أبناء الوطن الواحد هو مطلب الجميع، ولكن اتفاقيَّة أديس أبابا لا تسلك الطريق السليم إليه، فهناك ثغرات عديدة مثل الوضع الجديد لقوَّات الأمن، وانعدام الحقوق الديمقراطيَّة، وعدم وجود مخرج من الأزمة الاقتصاديَّة والماليَّة يجعل السَّلام نفسه معرَّضاً للخطر والضياع.