رداً على بيان (تحالُف القوَى الثورية للدِّفاع عن ديار المسيرية) – ما هي جذور المشكلة أصلاً؟
مقبول الأمين (كوكامي)
طالعنا بيان لما يُسمَّى بـ(تحالف القوى الثورية للدِّفاع عن ديار المسيرية – Revolutionary Forces Alliance For the Defense Misseria Lands). وقبل الخوض في ما كتبوه داخل البيان، فأين للمسيرية بديار (Land) – حسب ترجمتهم الإنجليزية – في مناطق جبال النوبة ومنها (الياواك) – التي حُرِّفت إلى (لقاوة) – و(الياواك) بلغة النوبة (كمدا) تعني (سيقان السمسم). والمسيرية يريدون تحريف التاريخ. فقدومهم إلى جبال النوبة لا يتجاوز الـ(222) حسب رواياتهم هم بأنفسهم، ولكن في بيانهم ذكروا إنهم جاؤوا منذ قرون من الزمان !! كم عدد هذه القرون ؟ حتَّى لا تضلِّلوا الناس. عندما أتيتُم إلى هذه المناطق وجدتوا (النوبة شات – والداجو) – وهذا من عندكم – والآن بعد ما إمتلكتوا السِّلاح بالإضافة إلى تحيُّز الدَّولة لصالحكم تكتبون مثل هذه البيانات المُستفِزَّة، تقولون إن المسيرية متسامحين مع أنفسهم ومع الآخرين وهذا يُكذِّبه الواقع لأنكم تتقاتلون فيما بينكم بإستمرار، ولا صليح لكم الآن من بين من يجاورونكم – فأنتُم لديكم مشاكل مع: (النوبة في الشرق، مع الرزيقات في الغرب، وفي الجنوب مع دينكا نقوك في أبيي، ومع دينكا أويل فى الميل 14، ومع الحمر في الشمال)، ومن المُدهش إنَّكم تطالبون أهلكم (العطاوة والجنيديين) والقبائل العربية بالسُّودان وخارج السُّودان – عبر هذا البيان – بدعم شعب المسيرية المُهدَّد بالإبادة الجماعية – حسب تعبيركم !! .. (شر البليَّة ما يُضحك) – فمتى إحتجتُم للسِّلاح أصلاً – فأنتم تمتلكون السلاح منذ عهد (عبود، النميري، سوار الذهب، الصادق المهدي، وعمر البشير .. والآن في عهد البرهان وحميدتي) ..لا توجد حكومة على مر التاريخ لم تدعمكم بالسلاح، وسلاحكم هو سلاح الدَّولة وليس من (العطاوة أو الجنيديين) – لأنكم مُغتصبي الأرض وتخشون (غضبة الحليم).
قلتوا في بيانكم إنكم تأكَّدتم من الآتي:
1/ عداء النوبة الواضح وإستهدافهم المُمنهج لشعب المسيرية. (ضربني وبكى .. سبقني وإشتكى) – دي حنوضِّحها في هذا المقال بالتواريخ والحقائق.
2/ ذكرتم إن الحركة الشعبية ومجلس عموم النوبة (وجهان لعملة واحدة) – وهي فِرية العاجزين عن المُقارعة والإحساس بالهزيمة.
والحركة الشعبية ميادين صراعها مُختلفة عن ميادين هذا المجلس.
3/ قُلتم إن كل النوبة وبكل تنظيماتهم ضد المسيرية – وهذا طبيعي لأنكم من بادرتُم بعداء النوبة الذين إستضافوكم في أراضيهم وهذا يؤكِّد غدركم وخيانتكم للعهود والأعراف.
4/ إستهدافكم للكبَّاشي ينم عن دوافع عنصرية فقط ولا تعليق لنا على ذلك.
5/ ناشدتُم مجلس السِّيادة بحسم تمرُّد النوبة من أعلى مستوياته إلى آخر مُتمرِّد يُهدِّد السلم الإجتماعي – وهنا تقصدون (الكباشي) في المقام الأول، ثم مجلس عموم النوبة، وبالطبع الحركة الشعبية – ولا يوجد أكثر منكم تمرداً على الدَّولة، النوبة خرجوا فقط للتنديد بالإنتهاكات – وأنتم تقفلون آبار البترول نهاراً جهاراً تحت مسمَع ومرأى أجهزة الدَّولة.
6/ تناشدون رئاسة الجهاز القضائي والنائب العام بإتخاذ إجراءات قانونية عاجلة ضد رؤوس الفتنة ودعاة العنصرية من النوبة !! .. وأنتم أكثر شعب خارج عن القانون في السُّودان، فحتى المسيرة التي أخرجها النوبة بواسطة المجلس – وأربكت حساباتكم – تم إخطار السُلطات بها.
7/ تؤكدون إن لقاوا ستكون مقبرة للمُعتدين وإن حدود غرب كردفان ستظل قائمة على حدود (مجلس ريفي المسيرية) رغم أنف الأعداء – وهذه هي الدعوة الصريحة للحرب والإقتتال ومسألة (ريفي المسيرية) هي أُس المُشكلة.
كيف بدأ الصراع في جبال النوبة (بذور الفتنة) – وكيف ومتى تم تسليح المسيرية:
النوبة كانوا مُسلَّحين منذ عهد الإستعمار بأسلحة بدائية (أبو جِقرة والمرمطون) حيث صُرِّح لهم بحمل السلاح .. ولكنهم لم يستخدموا هذا السلاح رغم تعدِّيات (البقَّارة) المُستمِرَّة عليهم .. كانوا فقط يستخدمون في خلافاتهم مع (البقَّارة) الحراب والعصي عندما يعتدي (البقَّارة) على مزارع النوبة .. هذا يرجع لعقلانية النوبة وإحترامهم للقانون، وقدرتهم على التمييز بين الخلاف الرئيسي والثانوي .. بين الفردي والجمعي.
أولاً: عندما خرق (النميري) إتفاقية أديس أبابا وقسَّم الجنوب لثلاثة أقاليم، وضم مناطق إنتاج البترول بـ(بانتيو) إلى الشمال تحت مُسمَّى ولاية الوحدة، وحوَّل مصفاة البترول المُرتقب إلى كوستي، إنتفض الجنوب وتأسَّست الحركة الشعبية لتحرير السودان فى 1983 بقيادة الدكتور/ جون قرنق ديمبيور، وقبل أن يصل الجيش الشعبي أو عملياته العسكرية إلى أجزاء كثيرة من الجنوب وخاصة فى غرب النيل بـ( بانتيو، بحرالغزال .. إلخ) ، وليس حتى في جبال النوبة أو (الفونج) النيل الأزرق أو دارفور .. قام (النميري) بتسليح القبائل العربية فى جنوب كردفان بواسطة وإشراف العميد وقتها (فضل الله برمة ناصر) وناظر المسيرية الزُرق (الحريكة عز الدين) .. ولم “تستطع تلك القبائل العربية صبراً” بعد أن إمتلكت السلاح الناري .. حيث تم دفعها بواسطة “أذناب” النميري وقتها لغزو وقتل ونهب القبائل الآمنة فى الجنوب. عليه تحرَّكت مليشيات المسيرية وقامت بغزو دينكا (فاريانق) بولاية الوحدة قتلوا وحرقوا المنطقة عن بكرة أبيها ونهبوا (60,000) ستين ألف رأس من الأبقار في يناير 1984، وجاؤا بتلك الأبقار إلى حفائر المياه بمنطقة (شات الصفية).
إحتجَّ نوبة (شات) طلبوا منهم أخذ أبقارهم والإبتعاد عن منطقتهم لثلاثة أسباب :
السبب الأول: أن الأبقار نُهبِت من جيرانهم (الدينكا)، وبمتابعة الأثر سيتهمهم الدينكا بالمشاركة فى جريمة النهب والعدوان، وبالتالي يكونوا ضحية للثأر.
والسبب الثاني: أنهم يحتاجون لمياه الحفيرين لمساعدتهم فى عمليات حصاد محاصيلهم الزراعية.
السبب الأخير: أنهم يعتمدون على مياه الحفيرين لشراب ماشيتهم فى الصيف لحين هطول الأمطار فى فصل الخريف.
ولكن، وبسبب الإحساس بالقوة، ولتفوُّق (الكلاشنكوف) على أسلحة النوبة المُتمثِّلة في (أبوجقرة والمرمطون) قام المسيرية بفتح النار على نوبة (شات) وقتلوا عدداً كبيراً منهم بسبب “بدائية” أسلحة النوبة. وبعدها إضطَّر المسيرية لأخذ الأبقار المنهوبة والتوجُّه بها إلى عاصمة المحافظة في كادقلي أمام أعين الحكومة. وقاموا تحت حماية الحكومة ببيع تلك الأبقار في سوق كادقلي مما أدَّى لهبوط سعر (ثور) البقر لأقل من سعر (تيس) الغنم. ويرجع ذلك لعقيدة عند البقَّارة تتمثَّل فى تحريم إدخال البقر المنهوب فى زريبة (الحرامي) أو ضمها لأبقاره خوفاً من النحس. لذلك يتوجَّب عليه بيعها وإستخدام العائد لشراء أبقار أخرى لضمها لأبقاره، وإلَّا فإن النحس سيصيب أبقاره القديمة ويقوده لفقدانها جميعاً ممَّا يعني إن مصيره سيكون الفقر والعوز. ونتيجة لإنخفاض أسعار الأبقار فى سوق كادقلي في تلك الفترة تحوَّل التجار (الجلَّابة) من أصحاب (اللواري) من شراء ونقل المحاصيل الزراعية، إلى نقل الأبقار باللواري إلى أسواق الشمال بغية تحقيق أرباح أعلى.
نعود إلى قبيلة (شات) المكلومة حيث قامت بعد العدوان بإرسال وفد إلى كادقلي لرفع شكوى للمُحافظ ضد إعتداءات البقَّارة عليهم. وبدلاً عن مُحاسبة المُعتدين قام المُحافظ (عبد الرحمن إدريس) وقتها، و مُدير الشُرطة (دارجول) بإعتقال وفد قبيلة (شات) المُتظلِّمة وإيداعهم في السجن، الأمر الذي جعل قبيلة (شات) تضطر لإرسال وفد آخر مُباشرة إلى الأبيض لتوصيل البلاغ إلى نائب الدائرة وقتها بمجلس الشعب الإقليمي بالأبيض (يوسف كوة مكي) . وعندما قام (يوسف كوة) بإبلاغ الحاكم (الفاتح بشارة) بتظلُّم وشكوى قبيلة (شات)، كان رد الفاتح بُشارة لـ(يوسف كوة) :
(بلاغ شنو ؟ هو في مُتمرِّد أكبر منك ؟ ولا عشان ما إعتقلناك؟ ..!!) .
وفي تلك الأثناء كان (عبد الرسول النور) عضواً فى نفس مجلس الشعب، ولا بد أنه كان مُلِماً بتلك الحقائق والتفاصيل وخاصة عدوان المسيرية على دينكا (فاريانق) ونوبة (شات).
ماذا كان رد فعل (دينكا فاريانق) لـ(عدوان) المسيرية عليهم ؟ :
ذلك العدوان دفع شباب دينكا (فاريانق) لقطع المسافات والإنضمام لمعسكرات التَّدريب التي إقامتها الحركة الشعبية لتحرير السودان وقتها، وتخرَّجوا كجزء من فرقة (كوريوم) وهي الفرقة الأولى التي سلَّحتها الحركة الشعبية. ورغم أن أبناء فاريانق كانوا قد تم توزيعهم في تشكيلات الفرقة المُختلفة والتي إنفتحت للقيام بعمليات عسكرية فى مناطق عدَّة بأعالي النيل وشرق الإستوائية إلَّا أن أبناء (فاريانق) هربوا من تلك الوحدات وتجمَّعوا في (فاريانق) .. وقد قام (النقيب/ سايمون منيانق كير) وقتها بتنظيمهم وقادهم للهجوم على البقَّارة في كل من (قردود أم ردمي) و(الأزرق) لإسترداد أبقارهم من المسيرية. وعقب أحداث (القرود) و(الأزرق) إستغلت حكومة (سوار الدهب) أجهزة الإعلام وضخَّمت وصوَّرت الأمر على أنه عدوان على الدولة من دون شرح لما وراء الأحداث أو خلفيتها وحقيقتها، وبأنها مجرَّد ثارات بين قبائل سودانية. وبناءاً على ذلك، وبعد تهيئة الرأى العام قام (سوار الدهب) ووزير دفاعه (عثمان عبد الله) و(فضل الله برمة) الذي صار عضواً بالمجلس العسكري لقيادة ما يُسمَّى بالثورة. قاموا بتفريغ كافة جنود الجيش السُّوداني من أبناء البقَّارة من الوحدات العسكرية في جميع أنحاء السُّودان للذهاب إلى جنوب كردفان لنصرة أهلهم البقارة. وقد أدَّى إطلاق يد أولئك الجنود النُظاميين لأخذ القانون بأيديهم إلى إرتكاب إنتهاكات فظيعة في حق مجموعات كبيرة من المدنيين (الدينكا – والنوير) الذين كانوا يقطنون في مدن جنوب كردفان بـ(أُسرهم) لسنوات طويلة وخاصة مُدن (أبوجبيهة، تلودي، كلوقي، .. وغيرها). حيث قتلوا النساء والأطفال والعجزة بطريقة بربرية لن تنمحي من ذاكرة مواطني جنوب السودان وجنوب كردفان. ولن تنمحي من ذاكرتهم كذلك الدور الإجرامي الكبير الذي قام به السفَّاح (سلمان سليمان الصافي) – الضابط الإداري بـ(أبوجبيهة) آنذاك – في إبادة المواطنين الجنوبيين الذين كانوا يعيشون بالمدينة وتحوُّلوا لجزء من النسيج الإجتماعي. بجانب ذلك تم قتل الكثير من النوبة فى مناطق (كاودا – وهيبان) وغيرها خارج إطار القانون.
من أجل التغطية على جريمتهم، وكعادة المركز وآلته الإعلامية فقد قلبوا الحقائق وصوَّروا أحداث (القردود) و(الأزرق) بأنها تمَّت بتدبير من (يوسف كوه مكي)، وأن النوبة هم الذين قاموا بتنفيذ أحداث القرود والأزرق في مايو 1985 ضد المجموعات العربية، في الوقت الذي كان فيه (يوسف كوه) قد أعلن إنضمامه إلى الحركة الشعبية في نوفمبر 1984، ولم يتلقَّى التَّدريب العسكري وقتها، ولم يكن يعرف حتى فك وتركيب (الكلاشنكوف) كما صرَّح من قبل، ناهيك عن إمتلاك جيش من النوبة قادر على شن مثل تلك الهجمات على (القردود) و(الأزرق). ولقد قرأنا في العديد من الكتابات إن حكَّامات البقارة كُنَّ يتغنيّنَ : (يوسف كوة .. خرب الخوَّة .. ودخل القردود بالقوة) !!. فما هي علاقة (القائد/ يوسف كوه مكي) بهجوم (القردود) ؟. ومن الذي حرَّض على مثل هذه التعبئة ؟.
عبد الرسول النور كان شاهداً على تلك الأحداث المُتمثلة فى العدوان على دينكا (فاريانق) ونهب أبقارهم، ورد فعل دينكا (فاريانق) لإسترداد أبقارهم من بقَّارة ( القرود) و(الأزرق)، وكان يعلم علم اليقين أن (النوبة) كانوا ضحايا لطغيان البقَّارة ومن ورائِهم الحكومة، وإضطروا للبحث عن السلاح بعد أن أساء البقَّارة إستخدام السلاح الناري، وإزدادت الإنتهاكات ضدهم كـ(إثنية) من قبل البقَّارة في (المزارع، الأسواق، المساكن .. إلخ)، بالإضافة إلى نهب أبقارهم وأموالهم تحت سمع وبصر وحماية الأجهزة الأمنية والإدارية للدولة السودانية (الحكومة).
فالحقيقة التي يجب أن يعلمها الجميع هي إن: أول من سلَّح القبائل هو (محمد أحمد المحجوب) رئيس الوزراء عن (حزب الأمة) في ستينات القرن الماضي لمواجهة (الأنانيا)، ولقد زار مناطق (التماذُج) وسلَّح القبائل العربية مُستخدماً مبدأ (فرِّق تسد) بين المُكوِّنات الإجتماعية لجنوب السُّودان وجنوب كردفان / جبال النوبة. وهذا موثَّق في كتاب : (الحرب الأهلية في السودان) للكاتبين (بروفسير/ مارتن دالي – والدكتور الباحث/ أحمد عوض أحمد سكنجا). ومن بعده واصل (جعفر نميري) بالتنسيق مع ضُبَّاط حزب الأمة بقيادة (فضل الله برمة) والناظر (عز الدين حريكة) وآخرين تسليح القبائل العربية كذلك – وفي ذلك الوقت لم تصل الحركة الشعبية إلى جبال النوبة إطلاقاً. وقد واصل أيضاً (سوار الدهب) في الفترة الإنتقالية (1985 – 1986) هذا المشروع بالتنسيق مع قيادة حزب الأمة. وبعدها تولَّى (الصادق المهدي) المُهمَّة في فترة ما يسمَّى بالديمقراطية الثالثة (1986 – 1989) وهو رئيساً للوزراء مُستخدماً (عبد الرسول النور) وأجهزته الأمنية .. حسب إفاداته في مقاله. لتأتي الجبهة الإسلامية القومية (1989 – 2019) وتواصل مشروع الإبادة والتَّطهير العرقي في الإقليم بعد إصدارها لقانون (قوات الدفاع الشعبي- 1989) والتي كانت (قوات المراحيل) سابقاً.
وماذا حدث في جبال النوبة :
ومنذ إكتمال هذا المشروع (الشرير) إرتكبت هذه المليشيات بعد تسليحها العديد من المجاذر والإنتهاكات في حق شعب جنوب كردفان / جبال النوبة، وتسبَّبت في أضرار كبيرة للطرفين : (النوبة) كضحايا من جهة، و(البقَّارة) من جهةٍ أخرى كمجموعة تم إستخدامها كـ(وقود) و(مخلب قط) ضد النوبة. وهنا نذكر بعض (المجاذر) على سبيل المثال :
مجزرة (اللوبا) بمقاطعة أم دورين (29 نوفمبر 1987) :
في صبيحة الأحد الموافق : 29 نوفمبر 1987 و في تمام الساعة الخامسة صباحاً هاجمت مليشيات (البقَّارة) مُدجَّجة بالسلاح ومدعومة بقوات حكومية قرية (اللوبا) الواقعة فى مُقاطعة (أم دورين) وهي قرية تقطُنها عشيرة (أرنبق) التابعة لقبيلة أومارنق (مورو) وقتلت (79) من الأطفال والمُسنين، ونهبت المُمتلكات وأبادت الحيوانات، وحرقت القرية بأكملها، وهجَّرت من تبقُّوا على قيد الحياة بعد فرارهم من الموت الحتمي.
مجزرة (الكوتنق منديو) – 10 أبريل 1989 :
بتاريخ 10 أبريل 1989 قامت قوة من مليشيات الدفاع الشعبي من عرب الحوازمة في منطقة (الحمرة) مدعومة بسيارات تتبع للقوات المُسلَّحة بمُهاجمة قرية (الكوتنق منديو) بمقاطعة البرام وهي قرية يسكنها النوبة (شات)، وكانت القوة قد تحرَّكت بتدبير من الحكومة يوم 9 أبريل وتمركزت في (الأحيمر) إستعداداً للهجوم، وفي صبيحة يوم 10 أبريل 1989 في تمام الرابعة صباحاً نفَّذت الهجوم بعد أن أحكمت الحصار على القرية، وتم قتل (80) شخص من سكان القرية وحرق (350) منزل.
هذه فقط نماذج من سفر كبير للإنتهاكات، ولا يسعنا الحديث عنه حالياً في هذا المقال.
وقد قامت منظمة African Rights بإجراء تحقيق دقيق عن الأوضاع في الإقليم عبر مُقابلات مع الضحايا والمُعاقين وتصوير القرى المحروقة، بما فيها المنازل والكنائس والمساجد. كما قامت بإصدار كتاب شمل نتائج ذلك التحقيق بعنوان :
(ng Genocide : The Nuba of SudanFaci).
نوبة السُّودان ومواجهة الإبادة – أصدره (أليكس دي وال – ويوهانس أكول أجاوين) في العام 1995.
وقد أشارت المُنظمة إلى أن تقريرها – وهو الأول من نوعه بالنسبة للمنطقة – إستند على شهادة أكثر من مائة وثلاثين شخصاً من ضحايا إنتهاكات حقوق الإنسان، ووثائق سرية من أوراق القوات المُسلَّحة السُّودانية. ولهذا التقرير أهمية بالغة بتوثيق معلومات دقيقة مُعظمها مُستقاة من شهادات الضحايا و ذويهم و نُشطاء (حقوق الإنسان) على الأرض في المنطقة.
أيضاً إهتمت مُنظمة العفو الدولية بنشر تقارير وافية ومُفصَّلة عن تلك الإنتهاكات.
وتظل دلائل وبيانات كثيرة عن الأحداث التي قامت بها القوات المُسلَّحة ومليشيات الدفاع الشعبي وعرب المسيرية – والتي تعد مُخالفات وإنتهاكات صريحة للقانون الإنساني الدولي – تقتضي مُحاسبة ومُحاكمة المسؤولين عن إرتكابها.
كما تضمَّنت التقارير السنوية التي تقدَّم بها المُقرِّر الخاص للأمم المُتَّحدة (الدكتور/ قاسبار بيرو) منذ توليه أعباء منصبه في العام 1993 حتى إستقالته في 1998، أدلة دامغة تؤكِّد إرتكاب تلك الجرائم. وقد وصف في تقريره إن النزاع الدموي كان بين (العرب) و(النوبة) في إشارة إلى المليشيات التي سلَّحها (عبد الرسول النور) وحزب الأمة. وقد تعرَّض – التقرير الذي قدَّمه – إلى فترة الديمقراطية الثالثة وإنشاء المليشيات العربية التي عُرفت بإسم (المراحيل) التي أُعيد تنظيمها في سنة 1989 حينما عُرفت بإسم “قوات الدفاع الشعبي”، التي أضفَى عليها نظام (الجبهة الإسلامية القومية) طابعاً قانونياً بموجب مرسوم صادر في نوفمبر 1989 مما جعل مواطني المنطقة عرضة لكافة أنواع الفظائع التي ترتكبها قوات الدفاع الشعبي والجيش والأجهزة الحكومية الأخرى – (حسب التقرير).
هذه تقارير وافية و موثَّقة وموجودة لدى المؤسَّسات الدولية. وهي كافية لإدانة (حزب الأمة) و(الصادق المهدي) و(عبد الرسول النور) وقادة المليشيات آنذاك.
وما هي مسؤولية عبد الرسول النور :
أولاً : بعد إنتخابات 1986 (الجزئية)، تم تعيين (عبد الرسول النور إسماعيل) في عام 1988 حاكماً على كردفان، ليواصل مسلسل التسليح والتجييش للبقَّارة كما ذكر في مقاله. وقد قام (عبد الرسول النور) بواسطة أجهزته الأمنية بتصفية المئات من المُثقَّفين وقيادات الإدارة الأهلية من النوبة، حيث زاد هذا التعيين من الإنتهاكات والتوتُّرات مما دفع المزيد من شباب النوبة لحمل السلاح، حتى جاءت فرقة (كوش) من الجيش الشعبي – التي حكى عنها عبد الرسول النور من قبل في مقال – وكان ذلك خلال توليه حكم الإقليم (مارس 1989). وقد لعبت هذه الفرقة (كوش) دوراً مُهمَّاً في حماية المواطنين و تثبيت الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السُّودان في جبال النوبة إلى يومنا هذا.
و للحقيقة و التَّاريخ – لم تكُن معارك (الكُتن) و (الحمرة) في مارس 1989 والتي ذكرها (عبد الرسول النور) في مقال له بعنوان: (البُغض و الكراهية والتسليح في جنوب كردفان / جبال النوبة .. وتداعيات الوضع الراهن في الإقليم) – هي بداية لتنظيم المُتطوِّعين من (البقَّارة) لإسناد ظهر الجيش كما ذكر، وإنما بدأ تسليح وتنظيم (البقَّارة) منذ الستينات كما ذكرنا، ثم بعد ذلك في العام 1983 بواسطة (جعفر نميري)، و(فضل الله برمة ناصر) كجزء من إستراتيجية المركز (الإسلاموعروبي) لإبادة و إحتلال أراضي النوبة في جنوب كردفان، و(الفونج) النيل الأزرق، وشعب دارفور. وقد كان دور (عبد الرسول النور) داعماً و مُكملاً للإستراتيجية، و تمثَّل ذلك في صب الزيت على النار خدمةً للإستراتيجية المُعدَّة سلفاً بالمزيد من التسليح للـقبائل (العربية)، والمُناداة بإجازة قانون (الدفاع الشعبي) لمُساعدة القُوات المُسلَّحة في حرب الإبادة.
ثانياً: ذكر (عبد الرسول) في ندوة أُقيمت بالقاهرة عام 1998 – والتي أشار إليها في مقاله المذكور : (أن المسيرية وصلوا إلى جبال النوبة في القرن الثالث عشر الميلادي، وذلك قبل وصول النوبة إليها بقرنين) ..!!!. وبدون تقديم أي أدلة على ذلك … !!!. يبدو أن الكلام في السُّودان (ببلاش) .. ويمكنك أن تقول ما تشاء طالما آلية التغييب المركزية لا زالت فاعلة وتعمل بجانب مُصادرة وتقييد الحريات، وعلى رأسها حرية التَّعبير. هذه أكبر أكذوبة في تاريخ السُّودان ومثل هذه التَّصريحات (الجُزافية) والحديث المجَّاني، هو الذي يؤجِّج نيران الحروب والإقتتال لما فيه من نوايا سالبة وسيئة ترتبط بالتَّاريخ والأرض.
ثالثاً: تحدَّث عبد الرسول النور عن من وصفه بـ(الصديق/ يوسف كوه)..!!. وذلك ليس صحيحاً .. لأن الصداقة (قيمة، إحترام، ومعزَّة). ولكن ما قام به عبد الرسول بإزاء تلك الصداقة (المزعومة) هو العكس تماماً. لأن أول إنجاز لهذه (الصداقة) قام به (عبد الرسول النور) بعد تعيينه حاكماً على كردفان في 1988 – هو مُصادرة قطعة أرض درجة أولى بحي البترول بـ(الأبيض) كان قد تمَّ منحها لـ(يوسف كوه مكي) كغيره من نواب مجلس الشعب الإقليمي الذين من ضمنهم (عبد الرسول النور إسماعيل) .. تم ذلك في غياب (يوسف كوه) ..!! وبقرار فوقي من دون مُحاكمة .. !!. فقط بقرار فوقي كدليل للإستبداد بالسُّلطة، وحقد دفين لم يفهم (يوسف كوه) كنهه حتَّى وفاته … !!!. هذه هي حقيقة العلاقة بين عبد الرسول النور والقائد/ يوسف كوه مكي.
وإليكم حديث أدلى به عبد الرسول النور وحزبه عن كيفية تسليح المواطنين في الإقليم حسب ما ذكر هو شخصياً :
(عندما قرَّرت الحركة الشعبية مُهاجمة كادقلي في مارس 1989 كان القرار الدِّفاع عن المدينة حتى النصر أو الموت .. أعلنتُ فجر اليوم التالي النفير العام .. ودعوت عبر مُكبِّرات الصوت كل من له خبرة أو معرفة بإستخدام السلاح الناري أن يُقدِّم نفسه مُتطوعاً للدِّفاع عن المدينة .. كان النداء عاماً وعلنياً للناس كافة، وتمَّت إذاعته عبر إذاعة إقليم كردفان من كادقلي التي حوَّلناها إلى عاصمة مؤقَّتة للإقليم .. كان رد الفعل كبيراً ومُدهشاً إذ زحف المواطنون رجالاً ونساء نحو القيادة في كادقلي .. والتي أوكلنا لها أمر تنظيم المُتطوِّعين ليكونوا سنداً للقوات المُسلحة تحت إمرتها إدارياً و قتالياً و تدريباً و تسليحاً ..!!).
وكان الدكتور/ عمر نور الدائم قد صرَّح في لقاء جماهيري بمدينة كادقلي في نفس الفترة (إن الحكومة سلَّحت القبائل في جنوب دارفور وجنوب كردفان، ومُستعدَّة لتسليح أي شخص .. لأن الجيش والشرطة لا يستطيعان حماية المواطنين من خطر التمرُّد).
الأدهى و الأمرَّ في مقال عبد الرسول النور – هو قوله إن : (القبائل المعنية هي بالطبع القبائل “البدوية المُحادِّدة لمناطق النزاع” أو تعيش داخله) .
هنا يُثار تساؤل : (نزاع بين مَن و مَن ؟). دار (الحرب) و دار (الإسلام) ؟ أم دار (العرب) ودار (الزنوج) ؟.
كانت مواطن المجموعات العربية قبل ذلك في القوز أو المناطق الجنوبية بشمال كردفان (علوبة، جعيبات، شيكان ..الخ .. الخ)، و نتيجة للزحف الصحراوي وتدهوُّر البيئة إضطروا للسير جنوباً بقطعانهم سنوياً في فترة الصيف ( يناير – أبريل)، بحثاً عن المياه لشرب ماشيتهم والمراعي لتغذيتها .. فبدأوا بالتوغُّل عبر عشرات السنين جنوباً. وبسبب (الآيديولوجيا الإسلاموعروبية) التي تبنَّتها الدولة المركزية بعد خروج المُستعمر وإنحيازها ودعمها للمجموعات المُستعرَبة للتملُّك و إحتلال أراضي المجموعات الأصيلة بمبدأ (كل أرض وطأتها حافر بقرتها هي ملكها) .. بدأت النزاعات.
وللـ(الصادق المهدي) شخصيَّاً دوراً سلبياً في تغذية هذه التوجُّهات عند المُستعرِبة من (البقَّارة) .. بالشحن السلبي والتَّحريض العنصري للقيام بإحتلال أراضي السُّكان الأصيلين منذ العام 1967 حيث قال لهم : إن (ضهر التور لا يُمكن أن يكون لكم وطناً). وعليكم بإحتلال أراضي النوبة، وستكون الدولة – مُمثلة في أجهزتها من قضاء وشرطة وضُبَّاط إداريين بالمراكز معكم سنداً وعوناً فى حالة إحتجاج أصحاب الأرض من النوبة .. لتبدأ الفتنة منذ العام 1968.
إن تهديدات المسيرية تُعتبر تهديدات جوفاء ولن يستطيعوا فعل شيء وأنتم لا ينقصهم السلاح كما ذكرنا ولا يوجد مسيرى ذكر لا يملك أقل من خمسه أو عشرة أسلحة من سلاح قوات المراحيل، وسلاح الدفاع الشعبي وسلاح المُجاهدين، وسلاح الدعم السريع والجنجويد وجيش العطاوة خارج الحماية والتغطيه المتوفِّرة لكم ولأبقاركم من قبل ما يُسمَّى بالجيش السوداني.
وكفى تهديد، فإن السلاح سوف لن يحميكم ولا تغطية قواتكم المُسلحة السودانية العنصرية المنحازة للعنصر العربي. والظلم والعدوان الذي هو من طبيعتكم هو الذي سيهلككم. وإن لم تراجعوا أنفسكم وإستمريتوا فى غيكم هذا، فإن هذه الأرض التى إغتصبتوها من (الداجو والنوبة) قبل أقل من مائة سنة سوف لن تأويكمم، بل ستتحوَّل إلى نيران ومحرقة لكم.
Sent from my iPhone