جنوب السُّودان.. ماضيه وصيرورته (7 من 21)
shurkiano@yahoo.co.uk
قد يصح القول بأنَّ الاستعمار البريطاني استعانت بالجمعيَّة الملكيَّة الجغرافيَّة، ومنظمات التبشير الكنسي في برامج استفاد منها النفوذ البريطاني الذي كان يسعى سعياً حثيثاً إلى بسط الهيمنة على العالم، واستغلال موارد البلدان. غير أنَّ هناك ثمة حقيقة هامة ينبغي ألا يستغفلها أحد ويتجاهلها ألا وهي محاربة تجارة الرِّق في السُّودان، وبخاصة في جنوبه. في سبيل هذا الهدف النبيل عهد الخديوي إسماعيل باشا لضابط بريطاني يُدعى صمويل بيكر مهمة التوغل إلى الجنوب السُّوداني لمكافحة الرِّق، وأعقبه الجنرال تشارلز غوردون كحاكم لمديريَّة خط الاستواء لإتمام مهمة سلفه بيكر.
كان في استقبال صمويل بيكر في إحدى زرائب العبيد في الجنوب مدير الزريبة المدعو بخيت أغا، الذي كان يمثل دور المضيف، وكان يتميَّز برباطة جأش وهدوء تعلمهما من أقرانه الأتراك والعرب. بخيت أغا نوبويَّاً كان من جبال النُّوبة في جنوب كردفان، ثمَّ إنَّه كان قد انخرط في خدمة جون بيثريك، الذي صار فيما بعد القنصل الإنجليزي في الخرطوم، ثمَّ تدرَّج إلى رتبة عسكريَّة في فوج الجنود الزنوج. في هذا الفوج انضمَّ إلى الحملة الفرنسيَّة ضد مقاتلي خواريز في المكسيك العام (1863-1867م)، وبعد عودته رافق صمويل بيكر في رحلته إلى منابع النيل الأبيض. بعد إزاحته من الخدمة العسكريَّة بواسطة صمويل بيكر، تمَّ تعيينه في مصلحة الخدمة المدنيَّة محافظاً لمديريَّة مكراكا بواسطة غوردون باشا. علاوة على بخيت أغا، كان هناك مسؤولان من النُّوبة هما فضل الله وريحان أغا، ولأنَّهما كانا من إقليم واحد كانا ينادي بعضهما بعضاً إخوان. أما نائب بخيت أغا التركي المدعو عطروش أغا فكان كثير الشكوى ضد رئيسه النوبوي. برغم من وضع عطروش الوضيع، وهو الذي كان يعمل سقاءً من قبل في الخرطوم، إلا أنَّه كان مشبعاً بنمط من الحقد والنكاية شديد ضد ما اعتبره نوبويَّاً ذا لون أسود.
لا جدال في أنَّ بخيت أغا لم يكن هو اسم ذاك النُّوبوي قبل الاسترقاق، فللنُّوبة أسماؤهم التي بها يتسمون، إلا أنَّه في ذلك الرَّدح من الزمان كان النَّخاسون يبدِّلون أسماء عبدانهم بأخرى توحي بأنَّهم أمسوا أصحاب حظوة ونجدة في النعت القدحي، وذلك بوقوعهم في الأسر. أي حظوة ونجدة تلك التي تكبِّل صاحبها مقرَّناً في الأصفاد! فلعلَّك واجدٌ أسماء مثل بخيت إيَّاه، والله جابو، وفضل السيد وغيرها كلها كانت أسماء يطلقونها على العبدان في ذلك الحين من الزمان. إذ أشار الدكتور منصور خالد إلى هذه التصنيفات الطبقيَّة الاجتماعيَّة في سفره “الفجر الكاذب.. نميري وتحريف الشريعة”، الصادر في دار الهلال العام 1986م، والأستاذة نوريس محمد سيف الدين في بحثها القيم “أحباش مصر بين الرِّق والعتق في القرن التاسع عشر”، الصادر في مكتبة الأنجلو-المصريةَّ العام 2009م، وفي الدراسة التي نشرها الأستاذ عثمان نواي الموسومة “السُّودان.. من العنصريَّة إلى التطهير الإثني”، الصادرة بواسطة النخبة للطباعة والنشر والتوزيع العام 2017م، وكذلك استكثرنا في هذا الأمر في كتابنا “التركيَّة في كردفان.. جبال النُّوبة وأهوال الاسترقاق”، الصادر في دار المصوَّرات للطباعة والنشر والتوزيع العام 2022م.
أما “أغا” فإنَّه لكلمة تركيَّة من المصدر “أغمق”، وتعني الكبر وتقدُّم السن، وقيل إنَّها من الكلمة الفارسيَّة “أقا”، وتُطلق في التركيَّة على الرئيس والقائد وشيخ القبيلة والخادم الخصي. ومن هنا جاء اسم سليم أغا، وهو أحد الأرقاء من النُّوبة الذي بات له شأن وشأو عظيمين، وأمسى ذائع الصيت في بريطانيا في القرن التاسع عشر. وهناك ثمة أغوات (جمع أغا) كثر في ذلك الردح من الزمان في مصر منهم عبد الله أغا، ومحمد محمود أغا، وخليل أغا، وبلال أغا وغيرهم كثيرين.
للمقال بقايا باقيات،،،