آراء

حديث النُّوبة في بريد آدم حامد جار النبي


الدكتور/قندول إبراهيم قندول
 
تحدَّث شعب النُّوبة العظيم حديثاً كبيراً وواضحاً غير مألوف عنه للشعب السُّوداني بعد أن تعاظمت عليه الخطوب وتكالبت، فقد نفد صبره.  حقاً، في التاسع من نوفمبر ٢٠٢٢م استطاع النُّوبة إعادة مجدهم حينما هزوا من تحت أقدامهم أرضين: أرض ساحة الحرية وأرض القصر الذي كان حُلماً لكثير من السُّودانيين. فتاريخ السُّودان المنقوص يحدِّثنا أنَّ أحد أنصار المهدي اعتلى مدرجات أو عتبات القصر وقتل غردون باشا، ولكن لم يفصح مَن القاتل ومِن أجل مَن أو من أجل ماذا؟  ثم تلت أسماء مناطق أصبحت فيما بعد مدناً بمقاييس السُّودان، مثل “ود نوباوي” وحلة “كوكو”، ولكن وقف كتبة ذلك التاريخ دون استكماله وسكتوا، فها هم يكتبون تاريخهم بأنفسهم فقد نجحوا بوضع أقدامهم على رصيف وعتبات القصر هذه المرة وليس بجانبه وهم موقنين بما يريدون.  التعبير السلمي والمطالبة بحقوقهم المشروعة.  نعم، استطاعوا أن يدهشوا أعداءهم وغيرهم أنَّهم أمة واحدة تربطهم رابطة تاريخ مشترك بمحاسنه ومآسيه، وهم فوق ذلك قوم عظيم تجمعه جامعة. أبهروا أهل السُّودان والعالم بوحدتهم وتلاحمهم مع الجيش والشرطة.  “جيشٌ واحد، شعبٌ واحد”، و”الشرطة في خدمة الشعب”، فتمت المسيرة بسلاسة وسلام فلم يُمس أحدٌ بسوء بأذى، ولم يسجِّل أي مركر عناية ورعاية صحيَّة أو طبيَّة أية حالة طارئة من تعب أو إعياء. فأي بشر هذا الذي شاهدناه؟ بيد أنَّه لا يعني أنَّهم لم يتعبوا، ولكن من أجل القضية العادلة هانت عليهم المصائب وتقزَّمت أمامهم الصعاب.
هكذا وبالفعل أثبت النُّوبة، رغم احجام جميع وسائل الإعلام العالميَّة والإقليميَّة والداخليَّة المحليَّة عن البث المباشر لما كان يدور في الشوارع وذلك لأسباب اعتاد الإعلام يتخيَّلها عن النُّوبة حتى صدَّقه النَّاس. من تلك الخيالات غير منطقيَّة أنَّ النَّوبة فوضويون وميَّالون للتخريب وإيذاء الآخرين. والسبب الثاني، في اعتقادنا، إخفاء الحقائق حتى لا يعلم أو يشهد أو يشاهد غيرهم ما سيلحق بهم من التنكيل. نعم، برهن النُّوبة (لا ثمة علاقة عضوية بين هذا وعبد الفتاح البرهان)، أنَّهم غير ذلك فأرسلوا رسالة قوية للمسؤولين الحكوميين وللشعب السُّوداني بصورة أو بأخرى أنَّهم أرفع من تكهناتهم وأنَّهم أصحاب حضارة وأنَّ “الكسير والجديع” ليس من صفاتهم.  كما ألهبوا مشاعر الجميع بوجودهم.
 في الحقيقة لم نستطع تفسير الغياب التام لتلك الأجهزة الإعلاميَّة لتغطية الحدث، في حين دأبت قناة “الحدث” الفضائيَّة وباستمرار نقل خبر ما كان يجري في شرق السُّودان، بأنَّ أهله أعلنوا “حكومة ذاتية”.  أما قناة الجزيرة المشهورة، اكتفت بإذاعة خبراً معناه “أنَّ نفراً من قبيلتي “اللقاوة” و”النُّوبة” تظاهروا أمام القصر الجمهوري بالسُّودان احتجاجاً على ما “حدث” في منطقة “اللقاوة”!!!  كان هذا تعمُّدٌ واضح ضد النُّوبة الزنوج الأصلاء من القناتين، أمرٌ فاضح من مراسل الجزيرة الذي ظن أنَّ أهالى “لقاوة” الأصليين غير نوبة، وأنَّ كل شعب النُّوبة هبَّ سلميَّاً لالتماس من القائمين بأمور الدولة السُّودانيَّة لمساعدتهم، رغم علمهم أنَّ الحكومة نفسها ضالعة في المؤامرة ضدهم. أيضاً، سكت عن مناصرة النُّوبة غالبية الشعب السُّوداني وجلس يتفرَّج فرِحاً بما سيلمُ بالنُّوبة من ضُرٍ، متمنيَّاً له الفناء كما دعا أحد تجار الدين في مظاهرة الإسلاميين في موكبهم الهزيل بعنوان “موكب الكرامة ١” الذي احتشد له الإسلاميون تحت غطاء “مبادرة نداء أهل السُّودان”، ظانين أنَّهم وحدهم أصحاب البلد. بيد أنَّه لا يفوتنا أن نشكر شعب الفونج الجديدة وبعض النُّوبيين على وقفتهم ومشاركتهم في الفعالية، وبعض السُّودانيين الذين رحمهم الله بضمير حي.
مهما يكن من أمر، لقد استطاع شعب النُّوبة الخروج وحده لا شريك له، لأنَّ الفاجعة فاجعته هو، والألم ألمه، لذا لم يكترث بما سيقوله السفهاء وأصحاب الأجندات الساقطة من الكلام الفارغ من غير النُّوبة كقولهم من طرف اللسان: “كلنا نُّوبة” أو “كلنا مع النُّوبة”، في أفضل التأويل، أو “كلنا ضد النُّوبة” في أسوأها، كما جاء لسان داعية، إن لم يكن داهية، يُدعى “آدم حامد جار النبي”، ويا حسرة على تسميته بهذا الاسم. كان حديثه، مزعجاً للأذنين، إذا انتفخت أوداجه الأربعة، وتفتَّح حلقومه بالصراخ بلغته العربيَّة التي يفتخر بها، وكما لنا لغات نعتز بها أيضاً.  فالنُوبة الذين وصفهم “آدم” بأقبح الأوصاف في حديثه الأجوف، ليسوا بمخربين للممتلكات العامة أو الخاصة، قضيتهم الأساسيَّة هي استرجاع حقوقهم المسلوبة والمحافظة عليها.
على أية حال، لما لم يحدث للنُّوبة ما تمناه هؤلاء، ولكن برزت أقلامهم الصدأة تسكب مدادها السام؛ وعلت الأصوات الشاذة المضلِّلة النكرة “وإنَّ أنكر الأصوات لصوت الحمير” (سورة لقمان/١٩) كما ضرب “آدم” مثلاً بأنَّ لو أطلق أحد جنود “الدعم السريع طلقة” لقامت القيامة، ولم يقل ما سيحدث إذا فعل نفس الشيء أحد الجنود المرابطين تنفيذاً لتعليمات من الضابط المسؤول. وبحسب رؤيته القاصرة القصيرة وعيناه العوراء المغشي عليهما، وبصيرته العمياء يعتقد بفكره الرجعي السقيم، أنَّ النُّوبة لا يستحقون الحياة مثله في هذا السُّودان، أو أنَّ نُّوبة اليوم هم نفس “ناس أمبارح”.
هذا ال “آدم”، قد سكت تماماً عن كل الانتهاكات التي حدثت للنّوبة عبر تاريخ السُّودان الطويل منذ أن وطأت أقدام أمثاله أرض السُّودان. تلك المظالم كبيرة وكثيرة. حقيقة، قد لا يعلمها “آدم” لجهله ولغريزة الجاهلية المتأصِّلة فيه غير ترديد ما لُقِّن من آيات قرآنيَّة وأحاديث نبويَّة، أو أبيات شعر الشعراء الذين أنزل الله فيهم سورة كاملة.  فكل ما ذكره منها ليس له علاقة عضوية بما قام به النُّوبة.  فعلاً حق المثل، والأمثال تُضرَب للناس لعلَّهم “يعقلون” أو “يتفكرون” أو “يعلمون”! فلنأخذ “آدم” في رحلة تاريخيَّة قصيرة: أولم يسمع بفتوى الجهاد التي صدرت ضد كل النُّوبة دون استثناء (بمن فيهم أبناء النُّوبة الذين يشاركونه نفس الفكر التكفيري والتضليلي عام ١٩٩٢م) من هيئة علماء السلطان في الأبيض؟  بلى!  ونعم، لقد توالت تلك المظالم والاعتداءات ضد النُّوبة إلى لحظة قراءة هذه السطور، ولم ولن نسمع بوصية من “آدم” أو غيره من ملته، تدعو إلى العدل والإنصاف لهذا الشعب النبيل والحكيم. 
شعب النُّوبة، لم ينكر في يوم من الأيام أنَّ هذا السُّودان يسع الجميع، وتحمَّل ولا يزال يتحمَّل انتهاكات الضرر بصبر وجلد، ولكن للصبر حدود، فهم ليسوا بنبي الله أيوب الذي دعا ربه ببلاغة: “أني مسني الضرُ وأنت خير الرحمين”(سورة الأنبياء/٨٣).  هذا الشعب عندما سار مسيرته السلميَّة وانكبَّ على موكبه، ألقن جميع السُّودانيين أنَّه معلِّم وذو مكارم الأخلاق، وفي قمة الحضارة والتمدُّن، عكس ما يراه أو يتخيَّله الآخرون، لذلك تحوَّل بأصالته في هذا السُّودان ضيفاً يسومه تجار الدين والعروبة المزيفة سوء العذاب. النُّوبة شعب لا يحمل الحقد ضد أحد مثلما جاهر به تاجر الدين “آدم”، وأمثاله كُثر. لماذا لا نترك أمر جميع الأديان للفرد وربه؟  ولماذا لا نرضى ولا نقبل أن نكون سودانيون يفتخر كلٌ منا بهويته دون فرضها أو دون المساس بحرية الآخرين في أن يختاروا ما يريدون؟ لماذا نُعنِّف بعضنا البعض بألفاظ نابية لمجرَّد اختلافنا في الرأي ونسعى لالتهام حقوق الناس بالباطل ثم ندلوا بها إلى الحكام “الفاسدين” لنأكل ما ليس لنا؟ ما الذي يضيرنا إذا فعل أصحاب الحناجر والحلاقيم المقدودة والمشروخة من أمثال “آدم”؟
يأيها النَّاس، لم يقف شعب النُّوبة يوماً على الرصيف يتفرَّج على أي حراك اجتماعي أو سياسي، بل سهاهم وشارك في الصفوف الأماميَّة، دافع عن كل السُّودانيين، وعن شعوب العالم، فهو الذي حارب في الشرق الأوسط، وغُرِّر به لخوض حرب الارتزاق في “اليمن” باسم الدين والعروبة.  أليس كذلك يا “آدم”؟ بلى! إذن كيف لك أن تقول أنَّهم يكرهون الدين (الإسلام) والعرب واللغة العربيَّة، وأنَّهم -تلميحاً- أيقظوا الفتنة. حقيقة أنت الفتنة ذاتها، والفتنة “أشد من القتل” وكنت نائم.
أخيراً، ليس دفاعاً عن الفريق شمس الدين الكباشي، فهو أجدر بالدفاع عن نفسه، ولكن في مثل هذه المواقف وبروز الأصوات الشاذة، ينبغي على كل حرٍ قول الحق.  لقد تعرَّض الفريق الكباشي للكثير من ألسنٍ حدادٍ من العوام ومدِّعي العلم والثقافة، بحكم انتمائه لقبيلة النُّوبة، ومع ذلك فهو أكثر منهم علماً وثقافة.  رغم كل ذلك لم نسمع كلام من أي رجل “ينصح” من مغبة ذلك الهجوم على الفريق الكباشي وأهله النُّوبة.  إلا أنَّنا بكل أسف، نجد أنَّ أحد “النصحاء”، إن صح التعبير، يغتنم فرصة ليست له ليبث سموماً بإزعاج مفرط ليوجه نداءً فارغاً للفريق شمس الدين الكباشي، و”يكسر الثلج” بوصفه رجل الدولة الثالث تارة (كلمة حق أُريد بها باطل)، وبالنُّوباوي تارة ثانية (وهذه هي قمة العنصرية التي يختزنها “آدم”) بأن يتدخَّل ليوقف أهله عما هم فيه وإلا، أو كما قال!! وما يستغرب له المرء ترديده اسم الكباشي ٩ مرات في أقل من ٩ دقائق، ولكن لتحيزه البائن والمفرط، لم يذكر أبداً اسم “رجل الدولة الأول” ولا “الثاني”، مما يعكس الخبث وسوء النوايا، وإدمان نشر الباطل من الكلم بذكره القبليَّة، والعنصرية، والجهويَّة، والإثنيَّة.
نقول ل “آدم” إنَّ: الفريق الكباشي بعيد كل البعد عما ذكرته من صفات ، بل هو ضحية لها من شاكلتكم.  نعم، هو نوباوي ولكن تجري في دمه العسكريَّة التي يمتهنها بجدارة وقناعة تامة، رضينا أم أبينا… وسواء اختلفنا معه أم لا.  فيا “آدم”، أفلم تسمع كلمة الكباشي القوية المرتجلة أمام حشد كبير في مدينة كادقلي في ٢٠٢٠م عندما قال ما معناه: “لا يهمني “عربي” ولا “نوباوي” ولا “فلاتي”، بل يهمني الأمن والاستقرار للمواطن”؟  من كان السبب في الفتنة التي “هرول” الكباشي “النُّوباوي” من الخرطوم لإطفائها وتغطيتها لتواصل نومها بهدوء تام؟ أعقل أيها الرجل، فهذا فجرٍ جديد للنُّوبة لن يستطيع كائن من كان أن يسوسه بالدين ولئن أظهر تدينَّه ونوباويته، فقد أعلنوها: إما أن يعيشوا مكرَّمين عزيزين في وطنهم، وفي أية بقعة فيه أو لا.  الاثنين.  تحيا الياواك وليستمر نضال شعب النُّوبة حتى النصر.
 
.


Sent from my iPhone

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى