آراء

العدالة والمحاسبة التاريخية

 متوكل عثمان سلامات

يرى عبدالكريم عبداللاوي أن فلسفة العدالة الإنتقالية تستند على تصور سياسي قوي لمفهوم الحق، وعلى تصور حقوقي كوني لمفهوم العدالة…ويواصل في كتابه ” تجربة العدالة الإنتقالية في المغرب” “أن لكل حالة ويقصد حالة إنتهاكات حقوق الإنسان وطريقة معالجتها، وضعها الخاص، وأن ليس هناك ثمة نماذج عالمية حول كيفية مواجهة إنتهاكات حقوق الإنسان الماضية”، الأمر الذي يجعل ضرورة طرح سؤال جوهري، هل نموذج الإنتهاكات الإنسانية التي تم إرتكابها والتدابير الخاصة بمعالجتها في الدولة السودانية مختلف؟

بلا شك هناك إنتهاكات إنسانية تم إرتكابها من قبل حكومات مختلفة على مستوى العالم، وكل ناشط مهتم ومراقب يصف الإنتهاكات التي أرتكبت في وطنه بأنها مختلفة عن غيرها من حيث الفظاعة، إلا أنني هنا لن أختلف معهم غير أن تقييم درجة الإختلاف سيترك للمهتمين بأمر حقوق الإنسان، والعدالة الإنتقالية، فقد حاولنا القيام ببعض المقاربات بين نموذج الإنتهاكات في الدولة السودانية والتجارب الأخرى في تاريخ العدالة الإنتقالية إلا أن كل المحاولات باءت بالفشل، وهذه واحدة من الأسباب التي جعلتنا نستخدم عبارة (العدالة والمحاسبة التاريخية).
ما يجعلنا نفترض إحتمال تفرد التجربة السودانية هو الآتي:
أن برنامج العدالة الإنتقالية يطبق على الدول في حالتين:

1- أن تكون الدولة قد عاشت في صراع وتم معالجة هذا الصراع بعد أن ترك إنتهاكات إنسانية،
2- أن تكون الدولة قد خرجت من نظام حكم تسلطي مخلفاً وراءه إنتهاكات إنسانية.
السودان عايش الحالتين منذ خروج المستعمر إلى اليوم، فقد أتت حكومات إنقلابية عسكرية تسلطية، وثأرت ضدها الشعوب السودانية وتم إستبدالها بحكم تسلطي مدني ومن ثم حكم إنقلابي عسكري تسلطي ولم يحدث أي إنتقال حقيقي وإستمر الصراع والتسلط المتمثل في عنف الدولة تجاه الشعوب السودانية والتي إضطرت أن تدافع عن نفسها في ثورات كفاح مسلحة. بعد ثورة ديسمبر 2018م تم القضاء على حكم عسكري إنقلابي متسلط، ومع ذلك مازال الصراع مستمراً، لأن المركزية الإسلاموعروبية مازالت تؤثر بشكل كبير في تنظيمات الثورة وبالتالي في حكومة ما بعد الثورة.
هذه الإنتهاكات التي إستمرت (65) سنة لم تقتصر على الحقوق المدنية والسياسية فقط وإنما تعدته إلى الحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية، وهي حقوق غالباً ما ستحاول بعض النخب والناشطين أن تجعل من أدوات العدالة الإنتقالية أدوات عاجزة عن كشف الحقائق عن هذه الحقوق أو حتى إنصاف ضحاياها، الأمر الذي يجعلنا نقف عليها بكل إنتباه حتى لا تتزحزح قيد أنملة من سلطات ومهام لجنة كشف الحقائق التاريخية وكل أدوات العدالة والمحاسبة التاريخية.
قام النظام العسكري الإنقلابي المتس

لط بإرتكاب إنتهاكات إنسانية وإرهابية إقليمية ودولية لاتقل خطورة عما قام به ضد شعوبه.
صدور مذكرة إعتقال من المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية في مواجهة عدد من رموز النظام السابق وعلى راسهم الرئيس المخلوع عمر حسن أحمد البشير بتهم إرتكابهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية.
هذه الوقائع التي أوردناها على سبيل المثال تشخص الحالة السودانية ويمكن أن تقودنا للخروج عن النمط التقليدي المعروف للعدالة الإنتقالية من حيث الإختصاص الزماني والمكاني والنوعي، ذلك النمط الذي يكرس لمعالجة الإرث السيء للإنتهاكات الإنسانية داخل دول مابعد الحكم التسلطي أو الصراع، مع التركيز على المسؤولية الجنائية في المعالجة، هذا النمط الداخلي من الإنتهاكات تجاوزته أنظمة الحكم التسلطي في الدولة السودانية، لذا فإننا نرى ضرورة تقسيم هذه الإنتهاكات إلى مستويين:
مستوى خارجي:

وفيه يتم معالجة الإنتهاكات الإنسانية والإرهابية التي إرتكبتها الدولة السودانية في حق دول وشعوب، مما أدى إلى فرض عقوبات إقتصادية وإحتلال موقع جيد في قائمة الدول الراعية للإرهاب، لإتهامه بتدريب إرهابيين يتبعون للقاعدة قاموا بالهجوم على المدمرة الأمريكية (يو إس إس كول)، ويذكر أن زعيم تنظيم القاعدة السابق أسامة بن لادن كان ضيفاً على حكومة الجبهة الإسلامية التي كانت برئاسة المخلوع عمر حسن أحمد البشير في السودان ولمدة خمس سنوات، في تسعينيات القرن الماضي، وقد أُدرج السودان على لائحة الإرهاب الأمريكية في عام 1993.

وتقول عائلات ضحايا الهجوم على المدمرة “يو إس إس كول” إن السودان قدم لابن لادن وتنظيم القاعدة دعما تقنيا وماديا، وهو ما ساعده على إنشاء قواعد للتدريب ومشاريع تجارية، بل والحصول على جوازات سفر دبلوماسية سودانية. كما تتهم الولايات المتحدة الأمريكية ضلوع السودان في تفجير سفارتيها في كينيا وتنزانيا والمشاركة في تفجير برج التجارة 11/سبتمبر/2001م وسقوط مجموعة من الضحايا.

لابد من معالجة الإنتهاكات الدولية للدولة السودانية والتي أحدثت تشوهات لعلاقات السودان الخارجية من خلال بناء دولة وطنية حديثة تفصل الدين عن الدولة وتحترام سيادة الدول ولا تتدخل في شؤونها الداخلية خاصة دول الجوار، تخلق علاقات خارجية متوازنة تراعي مصالح الشعوب السودانية وتسمح له بخلق دبلوماسية شعبية مع كل شعوب العالم. وقد حدثت هذه التدخلات والتشوهات في شؤون الدول لأن الفكر الإسلاموعروبي الذي تقوم عليه الدولة الإسلامية في السودان لاتعترف بحدود الدولة الوطنية وتعتبر هذا التدخل واجب ديني، لذلك أهدرت المواطنة وتآكلت الحدود الوطنية.
مستوى داخلي:

وفيه يتم معالجة الإنتهاكات الإنسانية الجسيمة وغيرها عبر تاريخها منذ خروج المستعمر، تلك الإنتهاكات التي إرتكبتها الدولة السودانية ضد شعوبها في أقاليم الفونج/ النيل الأزرق وجبال النوبة/ جنوب كردفان ودارفور وشرق السودان وضحايا السدود في أقصى الشمال وفي الخرطوم وغيرها.
تعتبر الدولة السودانية من أكثر دول العالم غنى بالموارد الطبيعية والبشرية، ولكن منذ خروج المستعمر في سنة 1956م، فشلت النخب السودانية التي ورثت الحكم في إارة هذه الموارد، وظلت تمارس إنتهاكات إنسانية جسيمة ضد الشعوب السودانية في جنوب السودان سابقاً وجبال النوبة والفونج ودارفور وأقصى الشمال والشرق والخرطوم، حيث مارست الدولة القتل بكافة الوسائل فأرسلت غارات جوية على مناطق جبال النوبة والفونج ودارفور وأسقطت البراميل المتفجرة والقنابل الحارقة وإستخدمت الأسلحة والقنابل المحظورة دولياً ومارست التشريد والتهجير القسري وإستخدمت المدنيين كدروع بشرية في حروبها ضد الشعوب السودانية والإساءات اللفظية العنصرية والهجومات الأرضية والتحرش الجنسي والتهديد بالقتل وغيره والإعتقالات التأسفية وتدمير دور العبادة والمؤسسات الخدمية من صحة وتعليم ومصادر مياه ومزارع وزرع الهلع والخوف وتدمير ونهب الممتلكات والتصفيات الجسدية وقتل إساءة معاملة الأطفال والإختفاء القسري والإختطاف والتعذيب وغيره من المماراسات اللاإنسانية، وقد ركزت الدولة كل الإنتهاكات الجسيمة في مناطق المجموعات الإفريقية لإختلافهم دينيا وثقافيا وعرقيا مع سياسات الحكومة القائمة على الإسلاموعروبية والساعية لأسلمة المسيحيين وأصحاب الديانات الإفريقية والغير متدينين وتعريب الشعوب الإفريقية قسرياً.

قامت الحكومة بإستخدام المسلمين ومعتنقي الإسلام قسراً والمجموعات العربية والمستعربة قسراً في هذه الإنتهاكات، حيث أفتت بالجهاد ضد شعب جبال النوبة في سنة 1992م ومازالت الفتوى مستمرة حتى الآن ولم يتم إلغاؤها، وتم محو قرى من الخارطة السياسية في دارفور ووصلت الإنتهاكات إلى مستوى جرائم حرب وجرائم الإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية، وقد نتج من جراء هذه الإنتهاكات لجؤ أكثر من (8,000,000) ثمانية مليون لاجئ على مستوى العالم، وبلغ عدد ضحايا الإنتهاكات الإنسانية في دارفور حوالي (400,000) أربعمائة ألف، أما في إقليمي جبال النوبة والفونج بلغ عدد الضحايا ما يقارب (400,000) أربعمائة ألف ضحية أيضاً، كما أن ضحايا مجزرة القيادة العامة، ومازالت الإنتهاكات مستمرة في دارفور، وفي شرق السودان ضد شعب جبال النوبة في بورتسودان وكسلا، وفيما بعد ضد شعب البجا، وفي آخر الأحداث بإقليم جبال النوبة بمدينة لقاوة وكادقلي العاصمة، وكذلك فى محلية قريضة بدارفور.

تأتي العدالة الإنتقالية كبرنامج أعدته الأمم المتحدة لمعالجة التاريخ المظلم في الدول والناتج عن الإنتهاكات الإنسانية التي تمت بسبب صراعات داخلية او الخروج من نظام حكم تسلطي كما ذكرنا آنفاً.

بعد ثورة ديسمبر 2018م تمكنت الشعوب السودانية من دحر نظام حكم دكتاتوري عسكري تسلطي، إلا أن الإنتهاكات الإنسانية ضد الشعوب الإفريقية من قبل المجموعات العربية مازالت مستمرة كأمتداد طبيعي لسياسات نظام الحكم الدكتاتوري العسكري التسلطي السابق نتيجة لضبابية الحكومة الإنتقالية ويساور الشعوب السودانية الشكوك بسبب شراكة قوى الثورة مع عسكر النظام الدكتاتوري والغير قادرين على تقبل التغيير ومحاولتهم دائماً اللعب على حبل الإنحياز للثورة علناً وحبل الوقوف بقوة ضد رغبة الشعوب السودانية في التغيير والعمل على إعادة إنتاج النظام البائد في خفاء والعلن حتى في الورش غير الرسمية التي ينبغي ان توصي …مجرد توصية!!!بمعالجات للأزمة السودانية، وكما أنه في ذات السياق..كيف يفسر الإنسان العادي البسيط المشهد إذا علم أنه في الوقت الذي كان يجتمع فيه رئيس مجلس الوزراء الدكتور عبدالله حمدوك بوفد المبادرة الأهلية للتعايش السلمي بإقليم جبال النوبة/ جنوب كردفان في مكتبه بمجلس الوزراء لإطلاعه على نتائج لقاءاته بجوبا مع القائد/ عبدالعزيز آدم الحلو، كان مكون المجلس العسكري بمجلس السيادة يجتمع مع قيادات الدفاع الشعبي من ذات مكون الحوازمة في مكان مجاور بعد أن تم إستدعائهم جميعاً عقب لقاءات وفد المبادرة مع الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال بجوبا، ومع ذلك تتمسك الحركة الشعبية بالعمل من أجل السلام العادل الشامل، و(تبشر تب) أنها لن (تطعن من الخلف) رغم هذه اللقاءات المغطغطة وغير المعلنة للشعوب السودانية…ونأمل أن يكون ذلك اللقاء مع الدفاع الشعبي مكمل للقاء الحوازمة مع الحركة الشعبية، وليس مخططا من مخططات المجلس وحزب الأمة لمواصلة ضرب النسيج الإجتماعي في إقليم جبال النوبة/جنوب كردفان برعاية والي الولاية الذي ذهب بعيداً في تنفيذ المخطط، حيث تمكن من إستقطاب وتقريب بعض أبناء النوبة ضعاف النفوس إليه بغرض إستخدامهم ضد إخوانهم ويفتنهم فيما بينهم من خلال نقل ونشر شائعات كاذبة عن كل طرف مما يخلق الجفوة بينهم لوحدهم وبينهم مع المكونات الأخرى في الإقليم، الأمر الذي يتطلب الوعي من الجميع لتفويت الفرصة على أعداء السلام والعمل من أجل صناعة السلام والإستقرار.
إن الدولة السودانية ما بعد الثورة في تقديري لايمكن أن ينطبق أو يطلق عليها مسمى دولة مابعد الصراع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى