آراء

مَن تركَ جامعةَ الدول العربيّة وَراء ظهره؟

جمال محمد إبراهيم

(1)
استضافت السعودية اجتماعات دعت إليها واقترحتها الإدارة الأميركية، وضمّتْ بلدان مجلس التعاون الخليجي إضافة إلى مصر والأردن والعراق، ووصفتْها الأطراف المشاركة بـ”اجتماعات قمّة” خاصّة بمنطقة الشرق الأوسـط تعنى بالأمن والتنمية. لم تختلف النواحي التنظيمية عن الاجتماع الذي أدارته الإدارة الأميركية السابقة برئاسة دونالد ترامب في مايو/ أيار من عام 2017. لقد سعى الرجل إلى عقد اجتماع موسع دعيت إليه قيادات عربية وأفريقية وإسلامية في الرياض، وذلك في الأشهر الأولى لولاية ترامب. انتهى اللقاء بين الرئيس الأميركي والعاهل السعودي في 2017 إلى اتفاقية التسلح التي قيمتها 400 مليار دولار، كما ركّز الاجتماع الجماعي مع بلدان دول مجلس التعاون الخليجي، وأيضا مع الدول الأفريقية والإسلامية، على مسائل التعاون بينها وبين الولايات المتحدة، إضافة إلى قضايا احتواء الإرهاب الدولي.
لوحظ تجاوز الإدارة الأميركية وقتذاك المنظمات الإقليمية التي تنضوي تحت لوائها دول شاركت في اجتماعات الرياض ذلك العام، بما بدا نوعا من التواصل الدبلوماسي غير المعهود من إدارة ترامب. ما أعطى تلك الاجتماعات، في شكلها الجماعي، طابعاً مراسمياً يتصل بتقديم الإدارة الأميركية نفسها لقيادات تلك الدوّل ورؤسائها والتعرّف إليهم.
(2)
ها هي اجتماعات جدّة جرى تنظيمها على النسق نفسه الذي اتبعته الإدارة الأميركية السابقة في عقد اجتماعات شراكاتها مفضلة اجتماعات جماعية، لا ثنائية، إذا جاز إطلاق صفة القـمّة على اجتماعات مدينة جدّة، والتي وُصفت بأنّها “قمة للأمن والتنمية” في الشرق الأوسط، فإنّهُ وإن اختلفتْ طبيعتها عن تلك الاجتماعات الجماعية التي عقدها الرئيس الأميركي السابق ترامب عام 2017، فإنّ اجتماعات 2022 لا تختلف، في أسلوبها، عن الاجتماعات السابقة، سوى أنّها كانت أقل حضوراً من ناحية، بيد أنّها قد تجاوزت، من ناحية أخرى، الأطر التقليدية المعهودة في الدبلوماسية متعدّدة الأطراف.

تجاهل الإدارة الأميركية، صاحبة اقتراح قمة الأمن والتنمية في جدّة، أمانة جامعة الدول العربية يعكس إهمالا متعمداً منها

لقد رسّختْ اجتماعات المنظمات الإقليمية وشبه الإقليمية منذ إنشائها بعد فترة وجيزة من انتهاء سنوات الحرب العالمية الثانية، وقيام هيئة الأمم المتحدة. نشأت معظم هذه التجمعات بانضواء مجموعات البلدان التي تتشارك سـماتها الجغرافية أو السياسية أو الاقتصادية، لتشكل ما يعرف بالمنظمات الإقليمية، والتي أثبت حراكها فعالية عالية في جهود التنمية الاقتصادية والاجتماعية، كما في حفظ السلم والأمن الدوليين، في ما عرف بعد ذلك بالدبلوماسية الجماعية، وهي التي أكملتْ جوانب التنسيق في مجالات التعاون الدولي، إضافة إلى الدبلوماسية الثنائية التقليدية.
ولتدعيم فعالية الدبلوماسية الثنائية، أسهمت الدبلوماسية الجماعية، وعبر التواصل والتنسيق بين المنظمات الإقليمية، بأدوارٍ غير منكرة في ضبط مقوّمات التعاون الدولي وتعزيزه. ولأن التواصل الدبلوماسي ساحة مفتوحة للتجديد ولابتكار بما يحسّن من وسائل التواصل بين البلدان والشعوب، فإنّ التطور المتسارع والتحوّل الكبير في وسائل الاتصالات الرقمية هيّأ للدبلوماسية أن تتواءم مع ما استجدّ من معطيات ومن أساليب محدثة.
(3)
لربّما لا يتيح المجال هنا التوسّع في الذي حققته اجتماعات جدة للأمن والتنمية، على ما له من أهمية، غير أن ملاحظات هذه السطور على الشكل والأسلوب، أكثر من الموضوع والمحتوى. ولعلّ من البديهي والمعلوم أنّ للدبلوماسية وجوهها الشكلية والإجرائية، مثل ما لمخرجاتها مضامينها ومحتواها.
اقتصرت اجتماعات الرئيس بايدن في جولته في منطقة الشرق الأوسط على السعودية وإسرائيل، إلا أن الانتقائية في ترتيب اجتماعات جدة كانت واضحة، وتتصل بعدد من البلدان العربية، تمثلت بقادة مجلس التعاون لدول الخليج العربية، إضافة إلى كلّ من مصر والأردن والعراق. لن يغيب عن نظر المراقب المتفحّص أنّ هذه الدول جميعها أعضاء في جامعة الدول العربية، لكن هذه الجامعة لم يكن لها وجود أو صوت في اجتماعات جدة. تجاهل الإدارة الأميركية، صاحبة اقتراح قمة الأمن والتنمية في جدّة، أمانة جامعة الدول العربية يعكس إهمالا متعمداً منها. لربّما كان سببه تقييم الإدارة دور الجامعة، وما تحفظ لها من مواقف لم تكن يوماً متعاطفة، بصورة أو أخرى، مع إسرائيل، أو مع الولايات المتحدة، الراعي الخاص لإسرائيل، وإن لم تبدِ الإدارة الأميركية تحفظاً صريحاُ تجاه الجامعة. في المقابل، لم يكن ثمّة تحفّظ على مشاركة مجلس التعاون الخليجي في اجتماعات جدّة للأمن والتنمية. وسنجد تفسيرا لذلك في خصوصية بعض الملفات، مثل التسلّح النووي الإيراني والإرهاب الدولي والإقليمي وقضايا النزاعات ومسائل الطاقة، والعديد من قضايا الإقليم، وتلك التي تتشارك حولها الرؤى الأميركية مع معظم الدول العربية التي شاركت في اجتماعات جدة.

لا تكاد جامعة الدول العربية تجد لنفسها أدواراً في الصراعات والحروب في بلدانها، فلا نجد لها صوتاً ولا أثراً

(4)
ربّما لا يختلف اثنان على أهمية ملفات اجتماعات جدّة، غير أنّ ما يلفت النظر هو أسلوب جلسات التداول حولها، وتحت قبّة عنوانها “قمّة مشتركة” في الشرق الأوسط، تقترحها الإدارة الأميركية، وتنساق إليها أعداد من الدول العربية، وتستضيفها العربية السعودية. لا تخفي ترتيبات عقد هذه الاجتماعات، على أهميتها، حقيقة واضحة للعيان، أنها تجاهلت جامعة الدول العربية، وهي من أقدم المنظمات الإقليمية التي أسّستْ مع خواتيم الحرب العالمية الثانية. وفيما يستشرف العالم عقده الثالث في ألفيته الثالثة، فإنّ عيون المجتمع الدولي لم تعد ترى عند منظمة العرب العتيقة أهمية يعوّل عليها. يرونها ظاهرة صوتية محضة، ولا تكاد تجد لنفسها أدواراً في الصراعات والحروب في بلدانها، فلا نجد لها صوتاً ولا أثراً، لا في سورية ولا في اليمن ولا في ليبيا ولا في السودان. بل نكاد، إن أمعنا النظر، نراها قد استسلمت لمصائر تهميش دورها وأفوله وضعفه. وما أصدق هذا القول إن قصدنا مقارنة فعالية الجامعة مع منظمة إقليمية شبيهة، مثل الاتحاد الأوروبي، فالبون شاسع. رحم الله جامعة الدول العربية، وأحسن عملها.
كأنّ قمّة جدة للأمن والتنمية في يوليو/ تموز الحالي، وقد جمعتْ لفيفاً من بلدان الشرق الأوسط، قد شرعت في صياغات جديدة لأطرٍ تتجاوز أطر جامعة الدول العربية، فتتجه إلى معالجة ما بيدها من ملفاتٍ تتصل بمصالح آنية لأطراف تلك الشراكة الأميركية المنتقاة مع بعض دول عربية. من الطبيعي أن يجرى ذلك بعيداً عن ترهّلات الجامعة، بعيداً عن مجاملاتها ومناقشاتها التي ما قتلت ذبابة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى