أفريقيا

ذوو البشرة السمراء يعزفون تاريخ رحلتهم إلى البصرة

كثيرة هي الأقليات التي تتمع بحقوقها السياسية والاقتصادية وبعض الحظوة الاجتماعية في العراق، على عكس الأقلية من ذوي البشرة السمراء الذين يعانون من الفقر والتهميش رغم قدومهم من القارة الأفريقية إلى البصرة منذ قرون، فامتهن بعضهم الموسيقى وأسسوا فرقا ليشاركوا الناس أفراحهم في انتظار الحصول على حقوقهم كبقية العراقيين.

الزبير (العراق) – يجلس عدنان عبدالرحمن بين طبول وآلات إيقاعية مختلفة تعلّم العزف عليها منذ كان في الثانية عشرة من عمره، عملا بتقليد متجذر بين أقلية سوداء متواجدة منذ قرون في العراق، وتعاني من التهميش.

وتشكّل الزبير القريبة من مدينة البصرة في أقصى جنوب العراق موطن هذه الأقلية التي تعود أصولها إلى بلدان في شرق القارة الأفريقية.

في بلدة الزبير تطالع الزائر مشاهد الفقر ونقص الخدمات والبنى التحتية؛ فالطرق وعرة ومهملة، والمنازل خرسانية رمادية. وفيما يستنكر ناشطون التهميش السياسي والاقتصادي الذي تعاني منه المنطقة يستاء السكان من الكلام عن “عنصرية” أو “تمييز”، ويفضّلون استخدام عبارة “البشرة السمراء” لتوصيف أنفسهم.

عدد من ذوي البشرة السمراء وصلوا إلى البصرة عبر بحر الخليج ومصبّ شطّ العرب للعمل في تجفيف المستنقعات المالحة

وينتمي عبدالرحمن (58 عاما) إلى فرقة موسيقية شعبية جعلت عادات وتقاليد بلدة الزبير مشهورةً في كلّ العراق، وأيضاً في الكويت المجاورة التي تبعد عن البلدة نحو 30 كيلومتراً.

ويقول “الفرق الموسيقية في الزبير لا تعد ولا تحصى”، مشيرا إلى أن غالبية الفنانين من أصحاب البشرة السوداء.

وتشتهر هذه الفرق بإحياء الزفّات التي ترافق حفلات الزفاف، مستخدمة الطبول والدفوف.

ويشرح عبدالرحمن وهو جالس على أريكة إسفنجية الإيقاعات التي يتقنها. وقد عمل مدرساً للموسيقى، وهو منضوٍ منذ أربع سنوات في “جمعية التراث” التابعة لوزارة الثقافة. ودخل عبدالرحمن عالم الموسيقى عندما كان طفلاً. حينها كان عمه يغني ووالده يعزف على “بنادق”، وهي طبول من الفخار.

ويروي عبدالرحمن “هذه المهنة وراثة، إذا مات الفنان يتسلم ابنه العمل مكانه. من شخص إلى آخر يستمر الفن ولا يموت”، مشيرا إلى أن أبناء عمومته يعملون في الوسط نفسه.

ويؤكد عبدالرحمن وغيره أن “العنصرية لم نرَها قط”. وتتفاوت التقديرات حول عدد أفراد هذه الأقلية بين 250 ألفاً إلى مليونين.

وتاريخياً يتحدر أسلاف الأقلية من إثيوبيا وكينيا والسودان، كما يشرح المؤرخ إبراهيم المرعشي.

ويقول المرعشي، الأستاذ في قسم التاريخ بجامعة كاليفورنيا سان ماركوس، إن منهم من “وصلوا كعبيد” إلى البصرة عبر بحر الخليج ومصبّ شطّ العرب لتأدية “العمل الشاق بتجفيف المستنقعات المالحة”.

ويضيف “في المخطوطات التاريخية أول انتفاضة لهذه الأقلية حصلت في عام 869″، في إشارة إلى ما يسمى بـ”ثورة الزنوج” ضد العباسيين.

الطرب يجري مجرى الدم في أجسامهم
الطرب يجري مجرى الدم في أجسامهم

وسمحت تلك الانتفاضة لذوي البشرة السوداء بتأسيس مدينتهم الخاصة التي استمرّت 15 عاماً، قبل أن يهزموا.

ويدعو الناشط ماجد الخالدي إلى “تمييز إيجابي” تجاه الأقلية التي ينتمي إليها، من أجل النهوض بواقعها الاقتصادي والتغلّب على التهميش السياسي.

ويقول الخالدي (32 عاما) الذي يعمل في شركة نفط في البصرة “أبناء البشرة السمراء يُعتبرَون مواطنين درجة خامسة، ليس حتى درجة ثانية”.

ويطالب الناشط بسكن لائق وفرص عمل، ويأسف لسوء مستوى التعليم وانقطاع الأطفال عن مزاولة الدراسة.

ويندّد باستمرار استخدام البعض لكلمة “عبد” التي يتداولها حتى بعض رجال الدين.وفي بلد متعدّد الطوائف تهيمن المحاصصة على توزيع المناصب والمحسوبية في تأمين المساكن والعمل وفي الإدارات العامة.

ويناشد الخالدي السلطات الاعتراف بذوي البشرة السمراء كأقلية وشملهم بنظام الكوتا، ليكون لهم ممثل في البرلمان، على غرار المسيحيين والإيزيديين.

وعلى الرغم من أنه معارض لنظام المحاصصة يدرك الخالدي واقع بلده البالغ عدد سكانه 41 مليون نسمة يعاني ثلثهم من الفقر، ولا تزال الوظائف الحكومية المصدر الأساسي فيه لفرص العمل.

ويقول “إذا أردت أن تطالب بحقوقك، لا بدّ أن تكون قريباً من أصحاب القرار”، مضيفاً “نريد ممثلين يستطيعون أن يدخلوا (لمقابلة) المحافظ، ويذهبوا إلى بغداد، ويدخلوا الوزارات”.

ومن المبادرات الخجولة التي حصلت في إطار محاولة تسليط الضوء على ضرورة وقف التهميش ضمّت قناة العراقية الإخبارية، أول قنوات البلاد الإخبارية الحكومية، الشابة ذات البشرة السمراء رندا عبدالعزيز كمذيعة أخبار إلى كوادرها.

الموسيقى جينات نتوارثها
الموسيقى جينات نتوارثها

وتقول مجموعة حقوق الأقليات الدولية “أم أر جي” على موقعها الإلكتروني “مازال العراقيون السود يواجهون تمييزاً وتهميشاً ممنهجاً”.

وتضيف المنظمة التي تتخذ من لندن مقراً لها “لا يوجد أي عراقي أسود يشغل منصباً رفيعاً في الحكومة”، مشيرة في الوقت ذاته إلى وجود “معدلات مرتفعة بشكل غير متناسب للأمية والبطالة” في أوساط تفتقر إلى فرص العمل المحصورة عادةً في خدمة المنازل.

ويشرح سعد سلوم، المنسق العام لمؤسسة مسارات للتنمية الثقافية والإعلامية والخبير في شؤون التنوع الديني والإثني واللغوي في العراق، أن “التمييز الذي يتعرض له أبناء البشرة السمراء هو تمييز على المستويات كافة”.

ويشير إلى أن ذلك يحصل “سياسياً بسبب عدم وجود تمثيل سياسي، واجتماعياً بسبب ترسخ بعض الصور النمطية في الثقافة السائدة، وينعكس أيضاً على الأبعاد الاقتصادية، لأن غالبيتهم دون مستوى الفقر”.

ويعتبر أي نشاط سياسي داخل الأقلية في العراق أمراً شديد الحساسية. ففي عام 2013 قُتل الناشط جلال ذياب، مؤسس أول جمعية للدفاع عن حقوق الأقلية، عقب انتخابات محلية جرت في البصرة.

ويقول سلوم “ما زال هناك طريق طويل لبلوغ المساواة وعدم التمييز ضدّ أفراد هذه الأقلية وأبناء الأقليات الأخرى”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى